راية الكتابة

24 مارس 2015
+ الخط -
في جولتنا الصباحية، راما وأنا على شاطئ البحر، لمحنا بغتة تلك الصخرة النائية، التي لم ننتبه إليها من قبل، كما لو أنها انبثقت للتو، فصرنا نمزح في كلّ صباح ونحن نمرّ قبالتها وندعوها: جزيرة راما.
في كلّ صباح، منذ وصولي إلى مرسين، خلال أسبوعين، وضمن تواطئنا اليومي، حيث ما أن أقطع الشارع المزدحم بالعمارات، فأجد البحر قبالتي، ثم نقطع معاً، راما وأنا، القسم المزروع بالأشجار والأعشاب، لنجد نفسينا بمواجهة البحر كاملاً، فأصرخ، في كلّ صباح، مكّررة المشهد "الزورباوي"، حين كان زوربا يفاجأ بالشمس في كل صباح، فأقول: "ياي، البحر!". إلا أننا طوّرنا التواطؤ، من "ياي البحر!" إلى "ياي شوفي الجزيرة اللي طلعت اليوم بالبحر".
أمّا هذا الصباح، فقد قلت لراما:
ـ تعالي نسبح حتّى هناك، ونثبّت علمك على الجزيرة، ويصبح اسمها الرسمي: جزيرة راما.
ـ أي علم؟ سألتني راما، ثم أضافت: ليش أنا إلي علم؟
صمتنا مطوّلاً وتابعنا سيرنا الصباحي، على رصيف البحر. كنت أشعر بالاختناق، وأعتقد مثلي، كانت راما، كالكثير من السوريين، تشعر بالقهر.
كان العلم التركي يرفرف قبالتنا، ورحت أغرق بيني وبين نفسي، حول مفهوم العلم، والصخب الذي أحدثه الانقسام بين السوريين حول الأعلام: علم الثورة الأخضر ـ علم النظام ـ أعلام الخلافة الإسلامية السوداء ـ العلم الكردي تتوسطه الشمس..
ورحت أتساءل أيضاً، أنا البعيدة عن الانتماءات الصغيرة، المتوسّعة في هوياتي، ألملم هوياتي المتناثرة كحبات عقد اللؤلؤ الذي انفرط ذات يوم، وأمضي حياتي أبحث عن كنزي المنثور. أضمّ حبة من المغرب، جوار حبة من مصر، إلى حبة من عفرين، المنطقة الكردية في سورية، قرب حبة من أمستردام، ثم حبة من بروتانيا، الأرض التي قررنا أن نستقر فيها، شريكي وأنا، على شاطئ الأطلسي، مع حبة من باريس التي أنتمي إليها كثيراً، وفيها حبات صغيرة من روح سارتر ورامبو وكامو، بل ومن أرواح الأغراب مثلي الذين استوطنوها: تودوروف ونانسي أوستن وفان غوغ وكونديرا. ثم آتي بحبة من رمل شاطئ بيروت، وحبة من أسطنبول، وهكذا. أمسك بعقدي غير المكتمل بعد، أزيّنه بحبات اللؤلؤ، التي أجمعها في حياتي، والتي سأموت قبل أن أكملها داخل عقدي، فأترك أحداً غيري يكمل عني ضمّ حبات الانتماء الملوّنة، فأشعر بما يشبه الخيانة وأنا أبعثر انتماءاتي وألملمها، فلا أجدني أنتمي لعلمٍ واحد أو راية ثابتة: خضراء أو حمراء أو صفراء.
قلت لنفسي، في اليوم الذي نشر السوريون فيه هاشتاغ: "ارفع علم ثورتك"، سأختار اليوم اللون الأخضر. وكان السبب أنه اللون الذي رفعه معظم الذين أنتمي إليهم: رومانسيو الثورة وحالموها. أنا المخلصة للحلم، الذي أعتبره حجر الأساس للواقع.
لكنني أنتمي لسورية كاملة، سورية لا تفرّق بين أبنائها، تحتضن الجميع، وتطبطب على الجميع.
توقفت عن السرد الداخلي، وقد قاربنا على طريق العودة إلى البيت، فسألتها:
ـ طيب أنت شو علمك؟
كأنها كانت ترافقني في سردي الصامت، قالت بكبرياء مقهور، ناظرة إلى العلم الأحمر الذي يرفرف أمامنا:
ـ الآن، علمي هو هذا.
أنظر إلى العلم التركي، فأشعر بالامتنان. تحت هذا العلم التقيت بأهلي. أكثر من عشر سنوات من الفراق، لم أستطع الاجتماع بأهلي في فرنسا حيث أعيش، ولا في سورية، حيث يعيشون، فجمعتنا تركيا. الوطن هو الأهل.
كيف لا أشعر بالامتنان لبلد جلب وطني إليّ!
ولكن مهلاً.. هذا ليس علمي!
ما هو علمي الذي حين أرفعه، سيعبّر عني؟ أنا الكاتبة المتعددة الانتماءات، الباحثة عن حبات العقد المنفرط؟
الشاعرة السورية هالة محمد رفعت لافتة أنيقة في تظاهرة باريس، وقد ظهرت عليها العبارة الآتية، باللغتين العربية والفرنسية: الشعر صوت الغائبين، فكأنها حسمت رايتها، منتمية إلى الشعراء المغيّبين.
هذا هو علمي إذن، علم الكتابة، سأرفع قلمي وأوراقي البيضاء وكتبي، كرايات تمجّد الكتابة والأدب. المجد للكتابة، الكتابة التي ستنقذ الإنسان والبلاد من العنف والنسيان. الكتابة وطن، وعبرها تخلّد الأوطان.
في انتظار العلم السوري الذي يتفق عليه السوريون، والذي أحلم به معبّراً عن الموزاييك السوري، الأخضر، الأحمر، الشمس، والقلم. إلى هذا اليوم، سأرفع رايتي في وجه العنف والتجهيل والتيئيس: راية الكتابة.
المساهمون