رائد أرناؤوط: حكاية القطيعة بين المعماري ومجتمعه

25 يونيو 2019
(رائد أرناؤوط)
+ الخط -

يرى الباحث والمعماري الأردني رائد أرناؤوط أن العمارة منتج ثقافي يرتبط بشكل عضوي بالفكر والمعرفة وما ينتجه المجتمع بشكل عام، وهي رؤية تشكّل أساساً لتصميماته المتعدّدة الذي وضعها وشارك في تقديمها منذ حوالي خمسة وعشرين عاماً، ومنها مسجد أبو عبيدة عامر بن الجراح ومقام ضرار بن الأزور في الأغوار، والمتحف الوطني في أفغانستان.

بدأ أرناؤوط بحثه من عشر سنوات في عددٍ من القضايا الإشكالية التي تتعلّق بالهوية العمرانية للمدينة العربية، وتأثير الغرب على العمارة والبيئة الحضرية والفن في العالم العربي، وأصدر كتابه "الاستشراق في العمارة العربية - إشكالية بناء المعرفة والهوية: قراءة نقدية في التاريخ الحديث والمعاصر (1750 - 2008)" الصادر عن "دار المأمون" عام 2009، ويعاد نشره في طبعة منقحة ومراجعة مزيدة خلال الأشهر المقبلة.

في حديثه لـ"العربي الجديد"، يلفت أرناؤوط إلى أنه من الصعب المضي في إنشاء وتوسيع مدن من دون هوية كما هو حال العديد من المدن العربية التي استعارت عناصر وأشكالاً معمارية لا ترتبط بثقافة المكان، موضّحاً أن معظم ما يبنى من عمارة فاقدٌ للمعنى، ولا يختلف عما أنتجه المعماريون الاستشراقيون في الغرب خلال القرن التاسع عشر.

كما يدعو إلى إعادة النظر في آلية إنتاج العمارة، وفي مقدّمتها المناهج الأكاديمية، بحيث يصبح البعد الثقافي بشكل عام هو المنطلق الأساسي لتدريس العمارة قبل أن يكون المنطلق الشكلي، من أجل جسر الهوة التي حدثت بسبب القطيعة الثقافية بين المعماري ومجتمعه.

■ أشرت إلى وجود إشكالية تتمثل بعدم معرفتنا بالعمارة العربية الحديثة والمعاصرة وتاريخها. ماذا تقصد بذلك؟
- قبل أن يؤسّس التعليم المعماري الحديث في العالم العربي، كانت العمارة حرفة ولم تكن هندسة، والحرفي يبني بثقافته التي تمتدّ إلى آلاف السنين، وكان المعماري/الحرفي جزءاً من المجتمع وأي إنتاج يقدّمه فهو ينتمي إلى المجتمع ويعبّر عنه، حيث المعمار ناتج ثقافي في صورة مادية معيشة. اليوم، كلما كانت العمارة أكثر ارتباطاً بالثقافة تكون أكثر ارتباطاً بالبيئة التي تحتضنها، ولأن المعماري أصبج ناتج مؤسسات أكاديمية مرتبطة بالغرب ونظامه التعليمي الذي تمّ نقله إلى العالم العربي، وتدرّس المنهج الغربي، فإن أول قطيعة بينه وبين ثقافته يسببها التعليم الأكاديمي الذي يعرّف العمارة وفق منظور تعريف الغرب لها ومرجعياته، وتحقيبهم لها: فرعونية ثم كلاسيكية ثم غربية بعصورها المختلفة وصولاً إلى اليوم بينما لا تستحوذ العمارة الإسلامية إلا على حيز محدود، ونتيجة ذلك غدت العمارة مادة تدرَّس ولا تعاش.

القطيعة الثانية تشكّلت مع انقطاع البيئة العمرانية المرتبطة بالتراث، والتي بدأت منذ غادر الاستعمار العالم العربي بعد منتصف القرن الماضي، إذ كان النموذج السائد هو استعارة المدينة الغربية في التخطيط العمراني، حتى باتت المدينة تشتمل على أجزاء قديمة مهملة مرتبطة بالفقر والتخلّف في تلك الفترة، وأنشئت مدن أو أحياء جديدة أصبحت المباني تمثّل محور المدينة وليس الإنسان، لأن عناصرها المعمارية واللغة المعمارية منسجمة مع العمارة الغربية التي أنتجتها، ومع مرور الزمن ازداد الفارق الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، وظلّ العالم العربي حتى الثمانينيات ينظر إلى العمارة التراثية نظرة ازدراء، وكانت بدايات حسن فتحي، مثلاً، صعبة لأنه كان ينظّر بلغة معمارية مرفوضة في عصره.

مع مرور الزمن، تكوّن جيل من المعماريين يسعى إلى التعرّف على عمارته التراثية، ومرة أخرى يحدث ذلك من غير دراسة النماذج الأصلية، إنما بالاطلاع عليها من خلال الكتاب، وبرزت تصاميم تبدو أنها أخذت عن "كتالوغ" أنتجت في غالبها عمارة مشوّهة، إذ لم تُقرأ تلك النماذج ضمن سياقها التاريخي والثقافي التي أنتجها، ونُظر إلى العمارة بوصفها صوراً وأشكالاً، ينتقي منها المعماري ما يريد ويعيد بناءها كعناصر مقولبة مجمّعة مجرّدة من محتواها ومعانيها في معظم الأحيان، لنقدّم نماذج معمارية عمارة وفق أسلوب لا يختلف عما أنتجه المعماريون الاستشراقيون في الغرب خلال القرن التاسع عشر، وتمّ عرضه في المعارض الدولية آنذاك. نحن اليوم، للأسف، نعيد إنتاج صورة مشوهة عن رؤية الغرب للعمارة التراثية، ولكن بتأخر زمني لا يقل عن مئة عام.


■ ما هي الجذور المعرفية والإشكاليات البنيوية للاستشراق في العمارة كما تقدّمها في كتابك؟
- الاستشراق حقل معرفي يعود تقريباً من ناحية التنظير إلى بداية القرن العاشر الميلادي، ويؤرّخ له مع ذهاب البابا سلفستر الثاني، قبل تسلمه كرسي البابوية، إلى الأندلس حيث درس الرياضيات والفلك واللغة العربية، ليبدأ منذ ذلك الوقت اهتمام الغرب بالشرق على مستوى نخبوي، ثم تأسّست لاحقاً كراسي دراسات اللغة العربية والتاريخ الإسلامي في الجامعات الغربية في القرن الرابع عشر. لا نغفل هنا أن الغرب خلال العصور الوسطى كان يعيش عصر الجهالة، بحسب كتاب "صورة الإسلام في أوروبا في العصور الوسطى" الذي قسّمه إلى ما قبل الحروب الصليبية وسمّاه "عصر جهالة المكان الضيق"، وأثناءها وأطلق عليه "عصر جهالة تخيّل المنتصر".

بعد ذلك، مرّ الاستشراق بمراحل مختلفة بحسب الحقب الذي عاشها الغرب إذ لم يعكس نظرته إلى الشرق في نسق واحد مستمر، إنما مرّ بتغيرات مختلفة خاصة مع انحسار دور الكنيسة وبدء عصر التنوير، وإن ظلّ المخزون الثقافي الديني مؤثراً إلى اليوم، والذي اعتمد في أساسه على تصنيف العرب والمسلمين وفق مراتب ودرجات متفاوتة في السوء.

كما مرّت الترجمة والنقل عن العرب في أكثر من مرحلة، تطوّرت مع ترجمة ألف ليلة وليلة والعديد من الأعمال الأدبية، ورافقها ظهور موجة من الفنانين رسموا الشرق في لوحات رأت فيه عالماً غرائبياً شهوانياً لا زمنياً، وتزامن هذا مع انطلاق المعارض الدولية التي كان من أهم أهدافها عرض الدول الاستعمارية لإنجازاتها ومنها جلب كنوز مستعمراتها.

وعلينا التوقف هنا عند ثلاثة أحداث رئيسية وقعت منذ نهاية القرنين الثامن عشر وصولاً إلى التاسع عشر: حملة نابليون التي كان لها أثرها الثقافي المهم وربما في مقدّمته صدور كتاب "وصف مصر"، ومشروع قناة السويس التي اتصل عبرها الشرق بالغرب بشكل مباشر من خلال حركة النقل والتبادل الاقتصادي، والاستعمار الحديث ممثلاً بوجود عسكري مع مرتبطاته السياسية والثقافية والاقتصادية، وهذه كلّها أثّرت في علاقة الشرق بالغرب، وتغيرت معها صورة الاستشراق من مرحلة الاكتشاف إلى التقاطع المادي الحقيقي مع الشرق.


■ يمرّ الكتاب بالمعارض المعمارية الدولية التي كانت تحضرها القوى الاستعمارية لتمثّل معمار البلدان التي تحتلها في منتصف القرن التاسع عشر، وصولاً إلى معارض اليوم التي تشارك فيها البلدان العربية بعد استقلالها، كيف تحلّل المشهد وتحوّلاته؟
- بعد منتصف القرن الماضي، سعت الدول العربية المستقلة من خلال مشاركاتها في المعارض الدولية مثل معرضي إشبيلية وهانوفر، إلى التعبير عن ذاتها من خلال شركات استشارية غربية فتمّت استعارة الغرب بإرادة عربية للتعبير عن رؤيته لهذه الثقافة، ولكن هذه المرة ليس الغرب كمستعمر فرض رؤيته على الثقافة، إنما كاستشاري يقدّم رؤيته عن العمارة العربية بحكم أنه صاحب "خبرة عالمية".

الإشكالية التي عانى منها العالم العربي في استلاب رؤيته في التعبير عن ذاته في المعارض الدولية سابقاً تنبع من كونه مستعمراً، ليتم إعادة إنتاجها مع تقديم الغرب ما يمكن أن تكون عليه هوية العالم العربي في صورته المعمارية، من خلال رؤيته الاستشارية، حيث الإشكالية أساساً تكمن في التعبير عن الذات من خلال رؤية الآخر لها قسرية أو اختيارية.

من ناحية التعبير، بقي الغرب ينظر إلى العالم العربي ضمن توجهين أساسيين؛ إما انتقائي تلقيطي لعناصر معمارية من التراث العربي وإعادة تجميعها وفق رؤيته الخاصة بغض النظر عن محتواها الثقافي، وإما في الانسلاخ عن هذه الثقافة ومحاولة التعبير عن سعي البلدان العربية نحو التحديث مع إعطاء بعض الرموز الثقافية من أجل تحقيق مرجعية تراثية تعزّز مفهوم الهوية.

وفي كلتا الحالتين، لا يمكن أن نفصل هذا التعبير عن أزمة الهوية الموجودة في الثقافة العربية، والتي ظهرت مدارسها الفكرية مع نهاية القرن التاسع عشر واستمرت حتى الآن، في مدارس ذات مرجعية تاريخية تقدّس التراث، أو مرجعية تدعو إلى الانسلاخ عن التراث، أو مرجعية تحاول مناقشة الغرب باستخدام أسلوبه الفكري مثلما فعل إدوارد سعيد وتحاول تفكيكه، ولكن الغلبة كانت لصالح الفريق الذي يحتمي بالتراث أو الفريق الذي ينسلخ عنه.


■ كيف تنظر إلى مصطلح "العمارة الإسلامية"؟ كيف تولّد وفي أي سياق، وكيف تقيّم النماذج التي قدّمها معماريون عرب في هذا الاتجاه؟
- العمارة الإسلامية مصطلح لم يكن مستخدماً في الثقافة العربية لسببين: أولهما يتعلّق بآلية إنتاج العمارة التي لم تكن آلية مهنية بمرجعية أكاديمية، بل إنتاجاً ثقافياً حرفياً، لذلك لم تكن هناك حاجة إلى المصطلح أساساً، وثانيهما أن هذا المصطلح ظهر في الأدبيات الغربية التي حاولت أن تدرس العمارة في الشرق العربي والإسلامي وكانت في بداياتها دراسات موسوعية أكثر منها نقدية وتحليلية مرتبطة بالثقافة.

وكان هناك توجه نحو إعطاء صبغة لها من خلال مصطلح يعبّر عنها، فتعدّدت المصطلحات مثل العمارة المحمدية وعمارة المسلمين والعمارة التركية، حتى استقر المصطلح على العمارة الإسلامية، والكتابات التي تحدثت عن "العمارة الإسلامية" بمفهوم ثقافي تحليلي جاءت متأخرة، ولعلّ بداياتها كانت مع أولغ غرابار في مؤلّفه "تكوين الفن الإسلامي"، وبالتالي بقيت الهيمنة في الإنتاج عبر المرجعيات الأكاديمية التي تعبّر عن العمارة الإسلامية من خلال التصنيف الزمني والشكلي للناتج المعماري على حساب الناتج الثقافي، وهذه الرؤية تجري صياغتها في كتب ومراجع هي أساس التعليم الأكاديمي في العالم العربي وفي الإنتاج المهني، وأصبحت العمارة الإسلامية مرتبطة بالشكل والعناصر أكثر من ارتباطها بالمحتوى الثقافي الذي أنتج هذه الأشكال والعناصر.


■ كيف يمكن بناء ثقافة عمرانية معاصرة مدركة لخصوصيتها وإشكاليتها وقادرة على القيام بمتطلبات نهضتها المعرفية؟
- يجب إعادة النظر في آلية إنتاج العمارة، وبما أننا لا نستطيع التخلّي عن المؤسسات الأكاديمية بصورتها الحالية، فلا بد من إعادة النظر في مناهجها، بحيث يصبح البعد الثقافي بشكل عام هو المنطلق الأساسي لتدريس العمارة قبل أن يكون المنطلق الشكلي، من أجل جسر الهوة التي حدثت بسبب القطيعة الثقافية بين المعماري ومجتمعه.

وعلينا الانتقال من مستوى المعماري المنتِج إلى مستوى الثقافة العامة المرتبطة بالمجتمع، بحيث يتم تعزيز مفهوم الثقافة بأشكالها المختلفة (اللغة والفن والعمارة) باعتبارها المكوّن الأساسي في بناء الشخصية العربية، وذلك على مستوى المنهج التعلمي في مراحله الدراسية الأولى باستخدام الآليات الحديثة ومنها الثقافة الرقمية.

تضافر هذين التوجّهين سيسهم في إحداث ثورة معرفية تؤدي إلى تعزيز وإعادة إنتاج الثقافة وربطها بالمجتمع عِوَضاً عن انحسارها في في بعض المراجع الأدبية أو المتاحف أو المعالم السياحية، لتصبح الثقافة ببعدها التراثي جزءاً من الحياة اليومية المعاصرة للفرد، وعليه ستعالج تلقائياً إشكالية الهوية بكونها تعبيراً صادقاً مباشراً عن الذات الفردية وعن الذات المجتمعية من غير إقحام صور وأشكال مستوردة، أو مستوحاة من تاريخ أو تراث، خارجة عن سياقها الحقيقي.

دلالات
المساهمون