رؤية في أزمة حزب الشعب الديمقراطي السوري
تمضي الأزمة الداخلية الكبرى التي تعصف بحزب الشعب الديمقراطي السوري إلى نهايتها المأساوية، إلى نقطة اللاعودة، إذ يبدو جلياً أن الحزب أصبح قاب قوسين أو أدنى من الانقسام، بعد أن انقطعت سبل التفاهم، وأُقفلت أبواب الحوار بين رفاق الأمس.
فريق الغاضبين من أداء القيادة (اصطلحتُ على تسميتهم المحتجين)، ويضم كوادر رئيسة ووازنة في الحزب، بينهم أعضاء في اللجنة المركزية، يؤيدهم عدد مجهول من أعضاء الحزب ومنظماته في الداخل والخارج، أصبح هذا الفريق عملياً خارج الحزب، ولم يبق سوى الإعلان عن الانشقاق، وتشكيل الكيان السياسي المستقل، وربما كان المؤتمر العام الثاني لإعلان دمشق الذي عقد، أخيراً، في غازي عنتاب التركية، بدعوة من بعض المحتجين من حزب الشعب، وآخرين من باقي مكونات الإعلان، هو من قطع شعرة معاوية، وجعل فرص المصالحة أشبه بالمستحيلة.
لن تتوسع هذه المقالة في مناقشة تفاصيل الأزمة، بقدر ما ستحاول الإضاءة على محطاتها الرئيسة، ومناقشة مخاطر وأبعاد بعضها، والقبض على بعض أسبابها وجذورها الحقيقية.
محطات في الأزمة
- بدأت الأزمة الحالية بالتكون، حسب اعتقادي، اعتبارا من المؤتمر السادس للحزب أواخر إبريل/ نيسان 2005، والذي بدا حينها، لمن هم خارج الحزب، أنه خطوة مهمة نحو الأمام، حيث تم استبدال الأمين الأول للحزب، وقائده التاريخي، رياض الترك، بأمين أول جديد، وتحويل الحزب إلى حزب اجتماعي ديمقراطي، وإطلاق ديناميات جديدة، تفتح المجال واسعاً أمام العمل السياسي، بعيداً عن أَسر الإيديولوجيا والعقيدة، والتأكيد على الديمقراطية منهجاً وسلوكاً في الحزب، قبل الدولة والمجتمع.
وكان استبدال الأمين الأول، بحد ذاته، بالغ الدلالة والأهمية، قياساً بحجم الرجل ورمزيته وموقعه في الحزب، وفي النفوس، وتبقى أهميتها، سواء كان الاستبدال برغبة الرجل وقناعته أو بدونهما، ففي الحالة الأولى، نكون أمام قائد يتخلى طوعاً عن موقعه للآخرين، وهذا كبير وغير مألوف في عالمنا. وفي الحالة الثانية نكون أمام حزب حي ومتجدد وقادر على استبدال قيادته، مهما علا شأنها، وهذا كبير أيضاً.
لم تكن حقيقة الأمر بهذه الصورة الوردية، إذ تبين، لاحقاً، أن ثمة انتكاسة كبيرة حصلت على المستوى التنظيمي، وأن رياض الترك الذي فاز بالكاد بعضوية اللجنة المركزية في المؤتمر السادس، والذي أطلق، قبل المؤتمر، تصريحات عديدة حول رغبته في عدم الترشح، وفي ترك القيادة للآخرين، يسعى جاهداً إلى الإمساك بقرار الحزب والهيمنة عليه، ويعمل لأجل ذلك، وبأساليب شتى، على استبعاد معظم الكوادر الخبيرة والمتمكنة وصاحبة الرأي والموقف، بأخرى أقل مستوى وأكثر طاعة. وما هي إلا ستة أشهر على تاريخ انتخابه، حتى قدم الأمين الأول الجديد، عبدالله هوشة، استقالته، احتجاجا على ما تعرّض له من تهميش وتعطيل وممارساتٍ، لم يكن قادراً على احتمالها، أو التعايش معها (نظرياً تذرع بحالته الصحية).
أحدثت هذه الأجواء حالة من الاستياء، لدى كثيرين داخل الحزب، وإن بقيت كامنة إلى حين انطلاق الثورة السورية.
- مع انطلاق الثورة، هذا الحدث الذي هبط كالقدر على السوريين، ووضع الحزب، ومعه كل القوى السياسية، أمام امتحان إجباري هائل، مفاجئ، وبالغ القسوة. سجل الحزب، كغيره من قوى المعارضة، فشلاً ذريعاً في التعاطي الصحيح مع متطلبات المرحلة الجديدة، وإن كان يسجل لأعضائه، في الداخل، انخراطهم المشرف، أفراداً، في مجريات الثورة ودعم الثوار، أما القيادة، فلم تتمكن من رفع مستوى أدائها إلى مستوى الحدث، وفشلت في الاستفادة من كوادر الحزب المتحمسة، وفي الانفتاح على الشباب الثائر، كما فشلت في إقامة تحالفات صحيحة، وفي التعاون وتوحيد الموقف، وتنسيق الجهود مع باقي قوى المعارضة الوطنية، والالتفاف معها حول برنامج سياسي وطني واحد، لدعم الثورة وتغطيتها وتوجيهها ومواجهة تحدياتها، مع ما لهذا العامل من أهمية فائقة في مرحلة الثورة.
ـ انتقل الفشل آلياً إلى "إعلان دمشق"، بحكم استئثار الحزب بإدارته، وإلى المجلس الوطني، بحكم دور الحزب والإعلان فيه، ويمكن القول، بثقة، إن قيادة الحزب لم تفشل في التعاون مع الآخرين فحسب، بل لعبت دوراً كابحاً معطلاً كل الجهود التي بذلت بهذا الاتجاه، بسبب تعنتها وإصرارها على فرض رؤيتها على الآخرين، وعدم استعدادها لتقديم أي تنازلاتٍ، تساعد على تقريب وجهات النظر، وتوحيد الكلمة، متذرعةً بمبرراتٍ لا تصلح لزمن الثورة، إذا افترضنا أنها تصلح لما قبله، متلطية، بشعبوية مبتذلة، بأولوية العمل المباشر مع الشباب الثائر، باعتباره صاحب الحق في قيادة الثورة التي أطلقها، ومالك القدرة على ذلك.
ـ كان أداء القيادة هذا محل اعتراض ونقد عدد كبير من كوادر الحزب الذين رأوا في الثورة فرصة تاريخيةً، لا يجوز تفويتها، ويحتاج التعاطي معها إلى طريقة تفكير وأداء مختلفين. وبدأ الحديث يدور، بوضوح وجرأة، عن أخطاء القيادة وفرديتها وتسلطها وتعطيلها وعجزها، فما كان مسكوتاً عنه قبل الثورة أصبح من الصعب السكوت عنه خلالها، وحجم الحدث ومصيريته قزّما الحاجز الأدبي الذي كان يقف حائلاً أمام تناول القيادة التاريخية بالنقد.
- كان المؤتمر العام لإعلان دمشق في المهجر، والذي عقد في اسطنبول، مطلع العام 2014، المحطة الرئيسة التي فجرت الخلاف، وأعطته دفعة كبيرة، حيث بدأت القصة، عندما رفضت القيادة قبول ترشيح عضو الحزب المخضرم، فؤاد إيليا، الذي توافق على ترشيحه لرئاسة المجلس الوطني، لإعلان معظم أعضاء كتلة الحزب (22 من أصل 25)، بحجة أنه من أعضاء الحزب، فعملت على إسقاطه وترشيح شخص آخر، من أعضاء الحزب أيضاً، ولا يحظى بثقة أحد، من دون مبرر مفهوم لأحد. زاد الطين بلة أن الأمر حصل بأسلوب غير لائق بمستوى الحزب وسمعته، الأمر الذي أدى إلى استياء عام لدى أعضاء الكتلة، وتوافقهم على ضرورة العمل على تغيير هذا الواقع البائس، فاتفقوا على متابعة التواصل عبر تقنية السكايب، وشرعوا بتشكيل منبر داخل الحزب لهذا الغرض، خصوصاً بعد أن تجاهلت القيادة وجود المشكلة، وبالتالي، معالجتها بطريقة مسؤولة، واكتفت بلوم المحتجين وتحميلهم المسؤولية والتشكيك بسلوكهم وأهدافهم. وخصوصاً أيضا بعد لجوء القيادة إلى تأجيل انعقاد مؤتمر منظمات الحزب في المهجر، لأجل غير مسمى، بعد أن عقدت المنظمات مؤتمراتها، وانتخبت مندوبيها، واستكملت استعداداتها لحضور ذلك المؤتمر الذي كان مقرراً في نهاية مايو/ أيار 2014.
- رأت القيادة في المنبر الذي شكله المحتجون تكتلاً هدفه التخريب، والنيل من صمود الحزب وخطه السياسي، إذ لا قضايا سياسية أو فكرية يهتم بها، وتحدد ماهيته منبراً، بل مسائل تنظيمية فقط، وأشارت إلى أطراف خارجية وصلات مشبوهة وراء ذلك.
- طالب المحتجون قيادتهم مراراً بفتح الحوار حول الخلافات، وطالبوا بالاحتكام إلى النظام الداخلي، ثم باللجوء إلى لجنة التحكيم الوطنية المسؤولة عن النظر في الخلافات، لكن ذلك كله باء بالفشل، فلا حل عند القيادة سوى مطالبة المحتجين بالاعتراف بالخطأ، ونقد الذات، والعودة إلى بيت الطاعة، مع محاولة النيل من سمعتهم وتاريخهم عبر التشهير والتخوين وافتراض النيات السيئة والأصابع الخارجية، إلى أن فرضت بحقهم مروحة من العقوبات، وصلت إلى الطرد.
- للسيطرة على الأمور، وتحييد لجنة التحكيم الوطنية التي كانت قد أصدرت قرارها بإبطال قرارات القيادة بحق المحتجين، واعتبارها غير شرعية، لصدورها عن جهة غير ذات صلاحية، ومخالفتها النظام الداخلي، قامت اللجنة المركزية بتفعيل المادة 59 من النظام الداخلي التي تعلن ما يشبه حالة الطوارئ، وتجعل من اللجنة المركزية، وبالتالي، من يسوسها، الحاكم الفرد المطلق الصلاحية.
- شكل المحتجون، مستفيدين من أحكام النظام الداخلي، وبعد أن أعيتهم السبل، قيادة بديلة، سموها "القيادة المؤقتة"، مهمتها الاهتمام بشؤون الحزب، والتحضير لمؤتمر عام استثنائي، وبدأوا بالتصرف على هذا الأساس، معلنين سقوط شرعية القيادة الحالية، متهمينها بالهيمنة ومصادرة الحريات وقمع الأصوات المختلفة، واستخدام وسائل التشهير والتخوين، وتجاوز النظام الداخلي، ومصادرة دور لجنة التحكيم الوطنية، والتسويف بشأن عقد المؤتمر، مشيرين، بوضوح، إلى مسؤولية رياض الترك، وهيمنته على قرار اللجنة المركزية...
حول تعطيل عمل لجنة التحكيم الوطنية
كان أمام الطرفين، قيادة ومحتجين، طريق طبيعي قانوني مؤسساتي، لتسوية الخلاف، هو اللجوء إلى لجنة التحكيم الوطنية، التي وُجدت لهذا الغرض، بموجب أحكام النظام الداخلي، والتي انتُخبت من المؤتمر مباشرة، كاللجنة المركزية، لتكون سيدة نفسها، وتعمل بحرية، وتُحتَرم قراراتها. وكان من شأن الاحتكام إليها إنهاء الخلاف بدون مضاعفات وتداعيات غير محمودة.
يُسجل للمحتجين أنهم سلكوا هذا الطريق، فعلا، فطالبوا بالاحتكام لهذه اللجنة، وأعلنوا قبولهم المسبق بقراراتها، ويسجل على اللجنة المركزية أنها رفضت سلوك هذا الطريق، وتجاهلت وجود لجنة التحكيم، مفترضة أنها غير مؤهلة لمعالجة مشكلات من هذا النوع، بل أخذت مكانها، وأصدرت قراراتها العقابية بالنيابة عنها.
كان تصرّف القيادة هذا كارثياً على الحزب، بكل معنى الكلمة، ونكسة كبيرة له، لأنه شكل تجاوزاً خطيراً لأحكام النظام الداخلي، وإرادة الأعضاء، ممثلة بالمؤتمر، ولأنه وجه ضربة قاصمة لفكرة ومبادئ العمل الديمقراطي والمؤسساتي من أساسها، ولأنه، ببساطة، دمر صمام الأمان الرئيس الذي يحمي الحزب في حالات النزاع، ودفع، بالتالي، الأمور دفعاً نحو التصعيد، وصولا إلى الانفجار.
حول تفعيل المادة 59 من النظام الداخلي
حتى تغطي القيادة تصرفها بتجميد عمل لجنة التحكيم ومعاقبة المحتجين، لجأت إلى تفعيل المادة 59 من النظام الداخلي، وهي مادة من شقين، يتحدث الأول عن صلاحيات خاصة، تعطى للجنة المركزية لاعتماد سياسة تنظيمية خاصة، إذا نشأت ظروف استثنائية منعت الحزب من النشاط الطبيعي. والثاني يشترط أن لا تؤثر الإجراءات الاستثنائية على تطبيق النظام الداخلي، كما يشترط محدوديتها وتوقيتها.
اعتبرت القيادة، إذن، أن ثمة ظروفاً استثنائية طارئة، تستدعي اعتماد إجراءات خاصة. وهنا، نتساءل كما سبق أن تساءل المحتجون، وتساءلت لجنة التحكيم: هل كانت الظروف طبيعية، قبل تفعيل هذه المادة في يوليو/ تموز 2014؟ أي خلال ثلاث سنوات وأربعة أشهر من عمر الثورة؟ وهل أصبح الحزب قادراً على ممارسة دوره بشكل أفضل بعد تفعيلها؟ وهل تطال الظروف الاستثنائية منظمات الحزب في السويد وفرنسا، مثلاً، وتمنعها من العمل، حتى يتم تشميلها بأحكام هذه المادة؟
كان واضحا للجميع أن قصة الظروف الاستثنائية متهافتة بما فيه الكفاية، وأن الهدف من تفعيل المادة إقصاء المختلفين، وإبعاد لجنة التحكيم الوطنية عن النظر في النزاع.
وكان تصرف القيادة هذا، أيضاً، انتكاسة خطيرة في مسيرة الحزب، وضربة موجعة للديمقراطية الحزبية وحرية الرأي والعبير والعقل النقدي والحيوية والتجدد والطموح. وتأخذ المسألة بعداً إضافيا في حالة حزب الشعب الذي طالما كان رائداً ومتقدماً وصلباً، بل كان رأس حربة المعارضة السورية في مواجهة الاستبداد وقمع الحريات، وفي المطالبة برفع حالة الطوارئ، وما يستتبعها من أحكام عرفية وإجراءات استثنائية، والتي فرضها نظام "البعث" على السوريين، منذ يومه الأول في الحكم.
بين الخطأ والخطيئة
كل الأخطاء والخلافات، مهما كبرت، تمضي بسلام، وربما تترك إرثاً مفيداً من التجارب والخبرات، إذا أُحسنت معالجتها. وكل الأخطاء، مهما صغرت، مرشحة للتطور إلى أزمات، إذا أُسيئت إدارتها ومعالجتها.
ربما أخطأ المحتجون في شيء، أو أشياء، وكذلك القيادة، وارتكاب الأخطاء من سمات البشر، وأجواء الثورة رفعت مستويات الحماس والاندفاع والرغبات إلى حدودها القصوى، وكبرت من احتمالات وقوع الخلافات وارتكاب الأخطاء، لكن الخطيئة الكبرى (وليس الخطأ) كانت في المعالجة، فالمعالجة هي التي حولت خلافاً طبيعياً قابلا للحل إلى أزمة مستعصية. لذلك، تتحمل القيادة كامل المسؤولية، على الرغم من افتراضنا أخطاء مرتكبة من فريق المحتجين، لأنها أقفلت باب الحوار، ورفضت مناقشة الخلاف أولا، وأصرّت على تأجيل المؤتمر، وأقفلت كل السبل القانونية لانعقاده (المادة 35 من النظام الداخلي)، وضربت عرض الحائط بالنظام الداخلي، بتفعيل مجتزأ للمادة 59 منه، وأخيراً، عطلت صمام الأمان الرئيس في الحزب، لجنة التحكيم الوطنية، والتي كان من شأنها البت في النزاع، ووضع الأمور في نصابها.
السقوط الأخلاقي
أن تقوم القيادة بإجراءات غير قانونية، وغير مؤسساتية، وغير ديمقراطية، للدفاع عن نفسها، والنيل من معارضيها، فهو أمر يمكن فهمه، وحتى توقعه، وإن كان لا يمكن قبوله. لكن، أن تلجأ إلى النيل من المحتجين، بتشويه سمعتهم، والطعن بتاريخهم النضالي، ووطنيتهم، وإخلاصهم للحزب، فهذا ما كان يصعب توقعه، كما يصعب تبريره، أو قبوله، أو تجميله تحت أي ظرف، أو بسبب أي خلاف، خصوصاً إذا كان الطعن موجهاً نحو كوادر تتمتع بتاريخ نضالي مشرف، أمضت حياتها السياسية في صفوف الحزب، مدافعة عن مواقفه وخطه السياسي، بتفان وإخلاص، وتبوأت مواقع قيادية فيه (ثلاثة من المحتجين من أعضاء اللجنة المركزيه الحالية، وبعضهم سبق أن كان في اللجنة المركزية، وعدد منهم من أعضاء المؤتمر السادس...)
وردت عبارات التشكيك والطعن والتشويه بحق المحتجين، في كل رسالة داخلية من رسائل القيادة، وفي كل بيان أو تصريح صحفي يتعلق بالأزمة، ناهيك عن تكليف بعض الأزلام بالتهجم على المحتجين عبر الصحف (أورينت نيوز 6/10/2015) أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي. وهذا أمر بمنتهى السوء، فعلاً، ويدل على إفلاس القيادة، وضعف حجتها، وعدم قدرتها الدفاع عن موقفها بالطرق المؤسساتية اللائقة، كما يدل على مدى تشربها بعض أساليب النظام في محاربة المختلفين.
لعنة العمل السري
بحكم موقفه المبدئي الصلب من الاستبداد وحكم الطغمة، اضطر حزب الشعب، منذ نشأته أوائل السبعينات، إلى التخفي وممارسة العمل السري، فاعتادت قيادته هذا الوضع، بحكم طول المدة، ويبدو أنها استأنست له، على الرغم من المخاطر المحدقة، لأنه وضع مريح لها على غير صعيد، فهو يعني تجميد الحياة السياسية والفكرية والنشاطات والمؤتمرات، وإيقاف التواصل والتفاعل الطبيعي بين الأعضاء والمنظمات والهيئات، وهو يعني أن لا استحقاقات سياسية تكشف القدرات، وتظهر العيوب، وهو يعني التفرد بصنع القرار والقدرة على إبعاد المختلفين، من دون رقابة أو حساب، ناهيك عما يضفيه هذا الوضع من أبعاد نضالية وبطولية على القيادات، بحكم معارضتها نظاماً شمولياً أمنياً لا يرحم.
يمكن القول، أيضاً، إن مرحلة العمل السري، بحكم عمرها الطويل، وقسوتها المفرطة، أصابت قيادة الحزب ببعض أمراض النظام، ونقلت إليها شيئاً من طباعه ووسائله، فاستمرأت البقاء في القيادة حتى الموت، مهما كانت التكلفة، وفعلت كل ما يمكن للاستفراد بالقرار، وسيطر عليها الشك والريبة في كل شيء، وفي كل الناس، وأحاطت نفسها ببطانة مأمونة ومطيعة، ولجأت إلى الطعن والتشهير بالمختلفين والطموحين لتشويه سمعتهم وإبعادهم. وفي الأزمة القائمة غير دليل على ما نقول.
جذر الأزمة/الأزمات
لم تكن الثورة السورية سبباً في وجود أزمة حزب الشعب، فالأزمة كانت موجودة ومتصاعدة، إنما كامنة ومحجوبة، بحكم شروط العمل السري ومتطلباته خلال حكم الطغمة، وكان دور الثورة كاشفا لها وحسب، فهي رفعت الغطاء بقوة وفُجائية عن كل شيء، وأصبح من الصعب على أي كان إخفاء أي شيء، تحت أي ذريعة، فالعمل السياسي والفكري والتنظيمي والميداني أصبح مطلوباً بكل الطاقة الممكنة، ومن دون تأخير، لأن القصة قصة ثورة، وثمن التقصير والتقاعس دماء بشر ومستقبل وطن. لذلك، ظهر فجأة ما كان خافياً لدى حزب الشعب، كما لدى جميع قوى المعارضة، من قصور وضعف شامل في مجالات السياسة والتنظيم والإدارة والإعلام، ومن غربة شديدة عن الواقع وعن الناس، ومن غياب لحرية الرأي والتعبير، ولفكرة العمل الديمقراطي من أساسها.
والدور الكاشف لعبته الثورة مع الجميع، من دون استثناء، في الداخل والخارج، أفراداً ونخباً وقوى سياسية موالية ومعارضة ونظاماً، وحتى قوى إقليمية ودولية ومنظمات، فالجميع كان مضطرا، بفعل الثورة، للظهور على حقيقته بدون أقنعة ومساحيق تجميل، وإبراز نياته وأهدافه وقدراته الحقيقية.
كما يمكن القول إن نشاطات المحتجين، وربما أخطاءهم، وكذلك ضعف أداء القيادة وقصورها في العمل والإدارة والسياسة، وردات فعلها التي أخرجت الأمور عن السيطرة، ما هي إلا الأسباب المباشرة للأزمة وتداعياتها اللاحقة، لكن لب المشكلة يكمن في البيئة المواتية لإنتاج الأزمات، وتحويل أي خلاف إلى أزمة.
نقول إن القيادة (نقصد دائما من يسيطر ويتحكم بالقيادة) عبر طريقتها في المعالجة، دفعت الخلافات إلى التأزم حتى الإنفجار. لكن، هل كان بإمكانها أن لا تفعل ذلك، وأن تسلك طريقاً آخر، يؤدي إلى تسوية الخلافات، والمحافظة على وحدة الحزب وتماسكه؟ بثقة أقول لا، وهنا، يكمن جذر أزمة الحزب وكل أزماته. هنا، يكمن مُوَلِّد الأزمات، أي في عقلية القيادة تحديداً، وأسلوبها في التفكير والعمل.
فهي قيادة فردية إقصائية، تحب التسلط والهيمنة، ولا تقبل المشاركة والاختلاف، ولا تستطيع التعايش السليم مع أصحاب الرأي والموقف، وقصتها مع الديمقراطية وحرية الضمير كذبة كبرى. وهي على استعداد للقيام بأي شيء في سبيل بقاء هيمنتها، حتى لو كان الثمن التضحية بالحزب وبتاريخه وكوادره، وحتى لو تقلص الحزب إلى بضعة مريدين، وإلا كيف نفسر إصرارها على التصعيد مع هذه المجموعة المخضرمة الخبيرة المخلصة من الكوادر؟ مع ثروة الحزب الحقيقية؟ وقد كانت كل طرق الحل متاحة، وسالكة أمامها، فعطلتها جميعاً خوفاً من نتائج قد تضعف من هيمنتها، وتركت أمام الآخرين خيارين لا ثالث لهما، الخنوع والعودة إلى القطيع أو الخروج من الحزب.
جذر الأزمات موجود تاريخياً في عقلية القيادة التاريخية، ساعدت على حجبها أو غض الطرف عنها ظروف العمل السري ومتطلباته، ورمزية القائد التاريخي المتضخمة، ساعد على ذلك أيضا تجاهل قسم كبير من الكوادر هذه الحقيقة، بحجة المحافظة على الخط السياسي المتقدم للحزب، وعلى عدم المساس بشخص قائده التاريخي، إلى أن هبط استحقاق الثورة الذي فرض قواعده الجديدة في العمل والتفكير.
هل ثمة أمل في حل؟
بين محتجين وصلوا إلى نهاية الشوط في احتجاجهم، وأصبح تراجعهم المجاني مستحيلاً، وقيادة متعنتة متصلبة، لا ترى حلا إلا بشروطها المُذلة، تبدو فرص الحل شبه معدومة. لكن ثمة فريق ثالث صامت، يعرف أخطاء القيادة وممارساتها، ويرى تراجع الحزب على كل المستويات، لكنه يرى أن التوقيت غير مناسب لإثارة المشكلات من جهة، وما زال يرى عدم جواز المساس بموقع القائد التاريخي الرمز من جهة أخرى. وشخصياً أرى أن الأمل معقود على هذا الفريق، لمعالجة المشكلة أو الخروج منها بأقل الخسائر، بالضغط على القيادة، لتليين مواقفها، والتراجع عن بعض إجراءاتها الاستفزازية وغير القانونية، وإجبارها على الاحتكام للنظام الداخلي، وإعادة الاعتبار للجنة التحكيم الوطنية، وإحالة ملفات الخلاف إليها، للبت بها، وإنهاء هذا النزاع، كما يجدر بمؤسسة محترمة أن تنهيه.
تحرك جدي مدروس لهذا الفريق الثالث لا بد أن يصنع فرقاً، فقد يؤدي إلى إجبار القيادة على الرضوخ للقانون، وإنهاء النزاع. وبالتالي، عودة الحزب إلى وضع أفضل من السابق بدينامية وحيوية جديدتين، أو قد يؤدي عزل المتعنتين في القيادة وإعفائهم من مناصبهم والانطلاق بمعزل عنهم. وفي الحالتين، تكون النتيجة أفضل مما هي ذاهبة إليه الآن.