ذكرى الوحدة اليمنيّة في زمن الانفصال
مرت، الخميس الماضي، 22 مايو/ أيار الجاري، الذكرى الـ24 لقيام الوحدة اليمنية التي أعلنت في مثل هذا اليوم من عام 1990، في ظرف لم يكن يخطر في بال أحد أنه ستتحقق فيه واحدةٌ من أعظم إنجازات العرب السياسية حينها، لكنها تمر هذا العام، ولا تزال كومةٌ من الوعود لم تتحقق، وأسئلة أخرى، لم تتم الإجابة عليها، ومشهد يمنيٌ يُعيد الانقسام مجدداً.
على الرغم من حوار وطني شامل، كان يفترض أن يجيب عن بعض تلك الأسئلة، وخصوصاً ما تعلّق منها بمصير الوحدة اليمنية، المأسورة بمسمى "القضية الجنوبية" التي قامت على أنقاض حرب صيف 1994 بين شركاء الوحدة حينها، إلا أن هذا الحوار، للأسف، لم يضع حلولاً عملية حاسمة وناجعة حتى هذه اللحظة، واضعاً المشهد اليمني كله مفتوحاً على كل الاحتمالات.
ولا يمكن فهم مهددات الوحدة اليمنية، اليوم، في معزل عن سياقها اليمني الخاص وسياقها العربي العام، باعتبارها حدثاً عربياً، احتفى به جميع العرب، وفي لحظة مليئة بالإحباط العربي العام، بعد هزائم ونكسات وتجارب وحدوية مريرة وفاشلة.
***
صحيح أن قضية الوحدة، شعاراً وتنظيراً، مثلت واحدةً من أهم جدليات العرب على مدى قرن، وتبلورت تنظيرات العرب، حصيلة لا بأس بها من أدبيات الفكر السياسي العربي المعاصر، تحولت إلى ما يشبه العقيدة الأيديولوجية، لدى تيار القوميين العرب، حيث تبلورت بشكل أكبر لدى مفكر القومية الأبرز، ساطع الحصري، وكتابات آخرين من دعاة الوحدة العربية، لكنها ظلت أدبيات نظرية مجردة، ومعزولة عن الواقع.
فشلت أولى تجارب هذه الوحدة مبكراً، في حالة الجمهورية العربية المتحدة، 1958، بين مصر وسورية، لأسباب موضوعية وسياسية بين شريكيها، وكانت بين فريقين أيديولوجيين عربيين هما البعث والقوميون العرب بزعامة جمال عبد الناصر.
ومثلما فشلت تلك التجربة، فقد فشل، بعدها، أيضاً مشروع تجربة حزبي البعث العربي الاشتراكي، في بغداد ودمشق، على الرغم من توحد الإطار المرجعي والفكري للتجربة، ظاهرياً، إلا أنه لا يمكن إغفال الأسباب الرئيسية لذلك الفشل، ممثلاً بالعقلية العربية الحاكمة التي برزت بعد الاستقلال، بشكل أشد استبداداً ممّن ثاروا ضدهم.
صحيح أن ثمة تجارب وحدوية عربية أخرى، نجحت في بقائها، كتجربة إمارات الخليج السبع التي أُعلن عنها في عام 1971، وسميت الإمارات العربية المتحدة، وهي تجربة تستحق التأمل، على الرغم من غياب أي إطار نظري لها، وارتكازها إلى قيم قبلية موروثة في الحكم. ومع ذلك، لا زالت مستمرةً، لا بكونها مقدساً وطنياً بقدر ما أن ظروفها الموضوعية، ممثلةً بالتفاوت الاقتصادي الكبير بين تلك الإمارات، وبعضها لا يزال حاكماً مسار علاقاتها البينية في إطار هذا الاتحاد.
***
بالعودة إلى الوحدة اليمنية، مثلت الانتكاسات الكبرى التي أصابتها صدمةً كبيرةً للشارع اليمني الذي حلم كثيراً بانعكاسات هذه الوحدة على وضعه العام، وعلى مستقبله ومستقبل وطنه معاً، لكن هذه الأحلام سرعان ما تبخرت أمام مطامع سياسيين "سُرّاق" لم يكونوا يعون معنى المنجز الوطني الكبير، إلا باعتباره مصدراً لمزيد من الثراء غير المشروع لتلك النخب الحاكمة.
لهذا، سرعان ما انفجرت حرب أهلية طاحنة وخاطفة، على مشارف انتهاء فترة انتقالية استمرت أربع سنوات، بعد إعلان قيام الوحدة، تخللها إجراء أول انتخابات برلمانية تعددية، 1993، كانت أكثر نزاهةً، أعقبها توقيع وثيقة العهد والاتفاق في عمّان، وكانت من أفضل ما أنتج العقل السياسي اليمني من أفكار، تم نسفها بتفجير الحرب.
وبانتهاء تلك الحرب التي أزاحت شريك تحقيق الوحدة، الحزب الاشتراكي اليمني، القادم من الجنوب، كان ذلك بمثابة إعلان التنصل وإلغاء الاتفاقيات الوحدوية الموقعة بين الطرفين: الحزب الاشتراكي والمؤتمر الشعبي العام. بعدها، صار واضحاً أنه لم يبقَ من الوحدة سوى اسمها، فيما روحها أطلقت أنفاسها مع آخر طلقة رصاص في تلك الحرب، حيث تصرف الرئيس السابق، علي عبد الله صالح، بعقلية المنتصر، لا كرئيس دولة، وإنما كشيخ قبيلة أباح جنوب اليمن لأركان قبيلته وسلطته الحاكمة، فعاثوا في الجنوب فساداً، من نهب الأراضي والمؤسسات، وإقصاء كل مَن هو جنوبي من وظيفته في السلكين العسكري والمدني.
الأخطر تجلّى في كيفية التعامل مع ميراث الدولة الجنوبية وثرواتها التي تم التصرف بها كغنائم حرب، وفقاً للشعور المذهبي للنخبة الحاكمة، فجرى تقاسم كل شيء في الجنوب، من آبار النفط والغاز، إلى سواحل الاصطياد، مروراً بالوديان الزراعية، مثل دلتا أبين.
لكن، لم يكن ذلك يحصل بمعزل عن وجود شخصيات جنوبية شاركت بالحرب ضد الجنوب، حيث كانت هناك شخصيات جنوبية ساهمت في كل ما حدث، بصمتها المريب حيال ما كان يجري في الجنوب، وهي في مواقع حكومية كان يمكنها أن تعترض، لكنها آثرت الصمت ومشاركة نظام صالح غنيمته.
***
خاض الجنوبيون نضالاً سلمياً مشرّفاً، سبقوا به ثورات الربيع العربي، في أعوام ما بعد انتخابات 2006 الرئاسية بين صالح ومرشح القوى الوطنية المعارضة، المهندس فيصل بن شملان، ومثلت تلك الفعاليات الجنوبية السلمية، في بداية انطلاقها، مطالب حقوقية واضحة، رفعها ضباط سابقون في الجيش، سُرّحوا من الخدمة من دون أي مبرر.
لم يجرِ الاستماع إلى تلك المطالب، والتعاطي معها بروح وطنية مسؤولة، بل قُبلت بمزيد من القمع والتعاطي الأمني المجرد من أي رؤية وطنية، ما حوّل تلك المطالب، حينها، من حقوقية إلى مطالب سياسية واضحة، مطالبةً بالانفصال عن نظام صنعاء. وبتفجّر ثورة 11 فبراير/ شباط السلمية، كان شباب الجنوب في مقدمة صفوف الثورة، منذ يومها الأول، حيث سقط الشهيد العلواني في عدن، وهو يرفع علم الوحدة، وليس علم الانفصال الذي كانت ترفعه معظم الفعاليات الجنوبية، قبل ثورة فبراير.
علق الجميع في اليمن، شمالاً وجنوباً، أحلامهم الكبيرة على ثورة 11 فبراير، وكان رهانهم الكبير على أنها وحدها يمكنها أن توقف عجلة التشظي الوطني، باعتبار أن صالح ونظامه أعداء الوحدة ومَن أفسدوها، ودمرتها سياساتهم الهمجية والعدمية. لكن الحاصل اليوم، وبعد عامين من ثورة 11 فبراير، هو فترة هدوء تام للمزاج الجنوبي المُطالب بالانفصال، وخصوصاً مع صعود شخصيات جنوبية لإدارة يمن ما بعد 11 فبراير، من رئيس الجمهورية إلى رئيس الوزراء إلى زير الدفاع إلى قادة كثيرين في الجيش ومسؤولين حكوميين.
ومع هذا، عادت أصوات جنوبية للمطالبة بالانفصال، تعبيراً عن حالة سخط تام من سياسة الحكومة التوافقية الانتقالية الراهنة، المشلولة والعدمية في التعاطي مع ملفات كثيرة للمرحلة الراهنة في أبسط صورها الحياتية، كالماء والكهرباء والمشتقات النفطية والانفلات الأمني، وغيرها من المخاطر المتفاقمة.
إن الناس تنظر إلى الوحدة على أنها دولة تصون حرياتهم وكراماتهم، وتحقق لهم مطالبهم المشروعة، كالأمن والاستقرار، وتوفير الاحتياجات الضرورية والكمالية، من خدمات وغيرها، ولا شأن لها، بعد ذلك، بأي شيء آخر، كرنفالي أو شعاراتي تهريجي.
لهذا، تزداد، اليوم، الأصوات المطالبة بالانفصال حدةً، حينما ترى أنه لم يختلف شيء عن عهد صالح، وأن هناك بين القادة الجنوبيين مَن حوّل قضيتهم إلى ورقة ابتزاز لأجل مصالحه الشخصية والفئوية، ولا يسعى إلى وضع معالجات وحلول حقيقية لمشكلاتهم، التي قطعاً لن يحلها نظام الفيدرالية الاعتباطي، في ظل فشل حكومي كبير داخلياً وتدخل إقليمي ودولي صارخ، في كل تفاصيل المشهد اليمني.
عدا عن ذلك، تصرّ بعض مراكز النظام الانتقالي الراهن، هرباً من عدم تحقيق أي إنجاز يفترض أن تحققه، إلى إيجاد معارك جانبية، كالحرب على الإرهاب، أو إدارة مزيد من الأزمات والصراعات بين فرقاء الساحة السياسية، لجر المشهد إلى مزيد من التأزيم الذي حتماً يؤدي إلى عدم تنفيذ أي استحقاق، مثل تنفيذ مخرجات الحوار الوطني، وإنجاز الدستور، ثم الذهاب إلى الانتخابات.
وحينها، أعتقد جازماً أنه لن توقف تصريحات الرئيس عبد ربه منصور هادي الدائمة، بأنه لن يسمح "بتشظي اليمن في عهده" هذا التشظي الذي غدا حقائق ماثلة على الأرض، متجاوزاً التشظي الجغرافي بين شمال وجنوب، إلى تشظٍّ طائفي خطير، تمارسه جماعة الحوثي المذهبية المسلحة في الشمال، وتشاطرها الفكرة نفسها، وإنْ ببعد آخر، جماعة القاعدة في الجنوب والشمال، على حد سواء.
الأخطر من هذا كله، أن يأتي مَن يتعاطى مع قضية الوحدة، وكأنها ذكرى سنوية للاحتفاء الكرنفالي المجرد، معزولة عن أي شيء آخر، يلمسه الناس في واقعهم اليومي المعاش، ويقيسون، من خلاله، وحدويتهم، أو انفصاليتهم.