07 نوفمبر 2024
دين السيسي
قال عبد الفتاح السيسي إنه قرأ ودرس خمس سنوات، ليختار الدين الذي يؤمن به، لكنه لم يقل أي دينٍ بالضبط. هكذا ردد مصريون عقب خطابه في ذكرى ليلة القدر في شهر رمضان الماضي.
معرفتنا بوقائع سابقة من السيسي وأنصاره تجعل السؤال مشروعاً، بل وملحاً، فقد شبهه أنصاره وأذرعه الإعلامية بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وبالمسيح عليه السلام، وجعل منه أحد الدعاة رسولاً، هو ووزير الداخلية السابق محمد إبراهيم، وقال الداعية نفسه أيضاً إنه مثل نبي الله موسى، كما جعله نائب رئيس مجلس الدولة "من أولياء الله الصالحين". وقبل ذلك، اعتبره أحد اللواءات السابقين "ابن سيّدنا الحسين"، وشبهه بسيدنا يوسف في الوقت نفسه! وخرجت صحيفة الفجر، قبل عامين، بعنوان "السيسي يقابل الله مرتين"، وتحدثت عن علاقة السيسي مع الله، سبحانه تعالى، وتديّنه الذي يصل إلى مرتبة التصوّف. ودعا خطيب مسجد الحسين في القاهرة إلى إطاعة السيسي، لأن "طاعة ولي الأمر من طاعة الله". وانتشر مقطع فيديو لمجموعةٍ من أنصار السيسي، وهم يحملون صورة له، ويسجدون أمامها لتقبيلها، وكأنهم يعبدونه.
وفي عيد الأضحى قبل عامين، امتدح وزير الأوقاف السيسي قائلاً "أحبّه الله، فوضع له القبول في العالم"، وأنه "سرى حبه في الأرض، وأحبه العالم في أثناء إلقاء كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة". ودعا الوزير إلى أن يجزي الله السيسي "عن عمله لله وللإسلام وللعروبة ولمصر". وجمع كاتب صحفي في جريدة الأخبار الحكومية بين تأليه السيسي ونبوته في الوقت نفسه، عندما استخدم قصيدة للشاعر ابن هانئ الأندلسي، قالها للخليفة الفاطمي المعز لدين الله، تقول "ما شئت أنت لا ما شاءت الأقدار، فاحكم فأنت الواحد القهار.. فكأنما أنت النبي محمد، وكأنما أنصارك الأنصار".
وكشفت معلومات مسرّبة، من حوار أجراه صحافي مصري مع الروائي يوسف زيدان الذي يشكّك في وجود المسجد الأقصى ومكانته الدينية والتاريخية، عن تكليف السيسي له ولغيره بنشر فكرة نفي وجود المسجد الأقصى، وكذلك رحلة الإسراء والمعراج، وتنظيم حملةٍ من عدة محاضرات تحاول تفكيك أسس الاشتباك الديني مع الصهاينة في القضية الفلسطينية، وصولاً إلى إرساء "قواعد سلام" بين الإسرائيليين والمصريين لاحقاً، في حال استجاب الوعي المصري لمثل تلك الحملات.
اعتمدت معظم تلك الأساطير على مشايخ دين أزهريين، ينتمون إلى المؤسسة الدينية الرسمية، وأبرزهم وزير الأوقاف الذي يتفانى في الأمر، ووجدنا وزارة الأوقاف توزع خطبةً موحدة العام الماضي، تصف حفر تفريعةٍ جديدة لقناة السويس بأنها "مثل حفر الخندق الذي حدث في غزوة الأحزاب بقيادة النبي، صلى الله عليه وسلم، وأنها فتحٌ من الله تعالى، وإيذانٌ بانتصار مصر على أعدائها".
أما العام الحالي فقد شهدنا وقائع ومساخر أخرى، أبرزها ادّعاء مؤيدين للسيسي أنه من آل البيت، وأن نسبه ينتهي إلى السلالة الهاشمية. وقال أحد أنصار السيسي، في مداخلةٍ هاتفيةٍ في أحد البرامج، إن الله "ابتلى شعب مصر بسابع الخلفاء الراشدين، السيسي"، ولم يخبرنا المواطن عن هوية الخليفة السادس، ولم ينتبه إلى أن "ابتلى" فعل يعني شيئاً سلبيا وليس إيجابياً. كما اعتبره شيخ أزهري "من جنود الله المرسلين لإنقاذ المصريين". وفي الشهر المبارك نفسه الذي تحدّث فيه السيسي عن دينه، خرجت صحيفة النبأ لتخبرنا أن السيسي يسير على الهدي النبوي، في تسليح الجيش المصري، مستدلة على ذلك بصفقات الأسلحة التي عقدها السيسي، أخيراً، ليحصل على شرعية دوليةٍ، يفتقدها منذ انقلابه العسكري عام 2013. ليس هذا فحسب، بل وجد أحد أساتذة التاريخ الإسلامي من الصفاقة ما يدّعي بها أن "تمييز الجيش" عن باقي أفراد المجتمع ليست شيئاً مستنكراً، زاعماً أن "عمر بن الخطاب أول من فعل ذلك، عندما منح للجنود الأولوية في منح الأراضي، وألحق بكل فرقةٍ من الجيش ضابطاً من الخزانة، ومحاسباً، وقاضياً، ومترجمين وأطباء وجرّاحين".
وبالمصادفة البحتة، اكتشف "أستاذ" آخر للتاريخ الإسلامي، أن الخلفاء الراشدين كانوا أول من أنشأ جهاز المخابرات الحربية (كان السيسي يقوده قبل أن يتسلم وزارة الدفاع)، وأسهم، بحسب الأستاذ، في الانتصارات المحققة في معظم الحروب. مع إشارةٍ إلى خالد بن الوليد وجهوده في إنشاء سلاح للجاسوسية، وكأن السيسي هو خالد بن الوليد هذا العصر. (لم يجرؤ أي منهم على الحديث عن جهاز المخابرات العامة، وهل كان له وجود في ذلك العصر أم لا، لأنه مغضوب عليه من الذات السيسية، وتتوالى قرارات إحالة ضباطه إلى المعاش بصورة دورية).
لم يستغرق مفعول خطاب السيسي في ليلة القدر طويلاً، بعد أن جلس السيسي، في خطبة صلاة عيد الفطر، يستمع إلى أسامة الأزهري، وهو يقول إن "الإرهاب سيزول، وسيفكّك فكره أمام أنوار الوحي التي تسري إلى البشرية كلها على يد الأمناء المخلصين من أبناء هذا الوطن". وطبعاً معروف من يقصد الأزهري بهؤلاء المخلصين، أي أن السيسي أصبح يتلقى أنوار الوحي من السماء، ليسري بها إلى البشرية.
روى أحد مستخدمي موقع "فيسبوك" أنه كان حاضرا لصلاة جنازة على خمسة أشخاص متوفين، في مسجد في القاهرة، ليجد الإمام يدعو "اللهم تجاوز عنهم، وخصوصاً سيادة اللواء فلان"، ويبدو أن هذا هو ما يفضله السيسي، باستخدام ديباجاتٍ دينيةٍ، تجعل الضباط فئة مميزة عن البشر حتى في الآخرة، أما أنصاره فيعتبرون أن السيسي هو النبي والرسول والمسيح المخلص والصحابي والخليفة الراشد والولي ومتلقي الوحي وابن سيدنا الحسين وجندي من جنود الله في وقتٍ واحد!
(كاتب مصري)
معرفتنا بوقائع سابقة من السيسي وأنصاره تجعل السؤال مشروعاً، بل وملحاً، فقد شبهه أنصاره وأذرعه الإعلامية بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وبالمسيح عليه السلام، وجعل منه أحد الدعاة رسولاً، هو ووزير الداخلية السابق محمد إبراهيم، وقال الداعية نفسه أيضاً إنه مثل نبي الله موسى، كما جعله نائب رئيس مجلس الدولة "من أولياء الله الصالحين". وقبل ذلك، اعتبره أحد اللواءات السابقين "ابن سيّدنا الحسين"، وشبهه بسيدنا يوسف في الوقت نفسه! وخرجت صحيفة الفجر، قبل عامين، بعنوان "السيسي يقابل الله مرتين"، وتحدثت عن علاقة السيسي مع الله، سبحانه تعالى، وتديّنه الذي يصل إلى مرتبة التصوّف. ودعا خطيب مسجد الحسين في القاهرة إلى إطاعة السيسي، لأن "طاعة ولي الأمر من طاعة الله". وانتشر مقطع فيديو لمجموعةٍ من أنصار السيسي، وهم يحملون صورة له، ويسجدون أمامها لتقبيلها، وكأنهم يعبدونه.
وفي عيد الأضحى قبل عامين، امتدح وزير الأوقاف السيسي قائلاً "أحبّه الله، فوضع له القبول في العالم"، وأنه "سرى حبه في الأرض، وأحبه العالم في أثناء إلقاء كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة". ودعا الوزير إلى أن يجزي الله السيسي "عن عمله لله وللإسلام وللعروبة ولمصر". وجمع كاتب صحفي في جريدة الأخبار الحكومية بين تأليه السيسي ونبوته في الوقت نفسه، عندما استخدم قصيدة للشاعر ابن هانئ الأندلسي، قالها للخليفة الفاطمي المعز لدين الله، تقول "ما شئت أنت لا ما شاءت الأقدار، فاحكم فأنت الواحد القهار.. فكأنما أنت النبي محمد، وكأنما أنصارك الأنصار".
وكشفت معلومات مسرّبة، من حوار أجراه صحافي مصري مع الروائي يوسف زيدان الذي يشكّك في وجود المسجد الأقصى ومكانته الدينية والتاريخية، عن تكليف السيسي له ولغيره بنشر فكرة نفي وجود المسجد الأقصى، وكذلك رحلة الإسراء والمعراج، وتنظيم حملةٍ من عدة محاضرات تحاول تفكيك أسس الاشتباك الديني مع الصهاينة في القضية الفلسطينية، وصولاً إلى إرساء "قواعد سلام" بين الإسرائيليين والمصريين لاحقاً، في حال استجاب الوعي المصري لمثل تلك الحملات.
اعتمدت معظم تلك الأساطير على مشايخ دين أزهريين، ينتمون إلى المؤسسة الدينية الرسمية، وأبرزهم وزير الأوقاف الذي يتفانى في الأمر، ووجدنا وزارة الأوقاف توزع خطبةً موحدة العام الماضي، تصف حفر تفريعةٍ جديدة لقناة السويس بأنها "مثل حفر الخندق الذي حدث في غزوة الأحزاب بقيادة النبي، صلى الله عليه وسلم، وأنها فتحٌ من الله تعالى، وإيذانٌ بانتصار مصر على أعدائها".
أما العام الحالي فقد شهدنا وقائع ومساخر أخرى، أبرزها ادّعاء مؤيدين للسيسي أنه من آل البيت، وأن نسبه ينتهي إلى السلالة الهاشمية. وقال أحد أنصار السيسي، في مداخلةٍ هاتفيةٍ في أحد البرامج، إن الله "ابتلى شعب مصر بسابع الخلفاء الراشدين، السيسي"، ولم يخبرنا المواطن عن هوية الخليفة السادس، ولم ينتبه إلى أن "ابتلى" فعل يعني شيئاً سلبيا وليس إيجابياً. كما اعتبره شيخ أزهري "من جنود الله المرسلين لإنقاذ المصريين". وفي الشهر المبارك نفسه الذي تحدّث فيه السيسي عن دينه، خرجت صحيفة النبأ لتخبرنا أن السيسي يسير على الهدي النبوي، في تسليح الجيش المصري، مستدلة على ذلك بصفقات الأسلحة التي عقدها السيسي، أخيراً، ليحصل على شرعية دوليةٍ، يفتقدها منذ انقلابه العسكري عام 2013. ليس هذا فحسب، بل وجد أحد أساتذة التاريخ الإسلامي من الصفاقة ما يدّعي بها أن "تمييز الجيش" عن باقي أفراد المجتمع ليست شيئاً مستنكراً، زاعماً أن "عمر بن الخطاب أول من فعل ذلك، عندما منح للجنود الأولوية في منح الأراضي، وألحق بكل فرقةٍ من الجيش ضابطاً من الخزانة، ومحاسباً، وقاضياً، ومترجمين وأطباء وجرّاحين".
وبالمصادفة البحتة، اكتشف "أستاذ" آخر للتاريخ الإسلامي، أن الخلفاء الراشدين كانوا أول من أنشأ جهاز المخابرات الحربية (كان السيسي يقوده قبل أن يتسلم وزارة الدفاع)، وأسهم، بحسب الأستاذ، في الانتصارات المحققة في معظم الحروب. مع إشارةٍ إلى خالد بن الوليد وجهوده في إنشاء سلاح للجاسوسية، وكأن السيسي هو خالد بن الوليد هذا العصر. (لم يجرؤ أي منهم على الحديث عن جهاز المخابرات العامة، وهل كان له وجود في ذلك العصر أم لا، لأنه مغضوب عليه من الذات السيسية، وتتوالى قرارات إحالة ضباطه إلى المعاش بصورة دورية).
لم يستغرق مفعول خطاب السيسي في ليلة القدر طويلاً، بعد أن جلس السيسي، في خطبة صلاة عيد الفطر، يستمع إلى أسامة الأزهري، وهو يقول إن "الإرهاب سيزول، وسيفكّك فكره أمام أنوار الوحي التي تسري إلى البشرية كلها على يد الأمناء المخلصين من أبناء هذا الوطن". وطبعاً معروف من يقصد الأزهري بهؤلاء المخلصين، أي أن السيسي أصبح يتلقى أنوار الوحي من السماء، ليسري بها إلى البشرية.
روى أحد مستخدمي موقع "فيسبوك" أنه كان حاضرا لصلاة جنازة على خمسة أشخاص متوفين، في مسجد في القاهرة، ليجد الإمام يدعو "اللهم تجاوز عنهم، وخصوصاً سيادة اللواء فلان"، ويبدو أن هذا هو ما يفضله السيسي، باستخدام ديباجاتٍ دينيةٍ، تجعل الضباط فئة مميزة عن البشر حتى في الآخرة، أما أنصاره فيعتبرون أن السيسي هو النبي والرسول والمسيح المخلص والصحابي والخليفة الراشد والولي ومتلقي الوحي وابن سيدنا الحسين وجندي من جنود الله في وقتٍ واحد!
(كاتب مصري)