31 أكتوبر 2024
ديمقراطيةٌ للاستئناس في المغرب
أخيرا، وبعد شهور من الانتظار، عيّن الملك محمد السادس الحكومة المغربية الجديدة التي يرأسها سعد الدين العثماني، والتي يفترض أنها انبثقت عن انتخابات 7 أكتوبر/ تشرين الأول المنصرم. تشكيلةٌ ترجمت تنازلاتٍ كبيرة قدمها حزب العدالة والتنمية، بشكلٍ لا يخلو من دلالة، أبرزها تخليه عن الوزارات الاستراتيجية الكبرى لفائدة حزب التجمع الوطني للأحرار، وقبوله بحضور قوي ولافت للتكنوقراط فيها، وتبخّر آمال التأويل الديمقراطي للوثيقة الدستورية التي جاءت بها النسخة المغربية من الربيع العربي.
وإذا كان بعضهم يرى أن عدم فوز الإسلاميين بهذه الوزارات يعود إلى عدم توفرهم على كفاءات متخصصة، فذلك لا يمكن أن يحجب، بأي حال، استمرار هيمنة آلية التنخيب التقليدية في المغرب، سواء من خلال عدد الأحزاب المشاركة (ستة)، أو تأثير شبكات النفوذ والولاء والمحاباة داخل النخب، أو وجود عدد من كتاب الدولة في هذه الحكومة دلالةً على نزوع واضح نحو توسيع دائرة الترضيات، فضلا عن ظفر التجمع الوطني للأحرار بالوزارات المهمة، ذات الصلة بالمشاريع والمخططات الاقتصادية الكبرى التي ينخرط فيها المغرب حاليا، ما يعني أن هذا الحزب ما زال مَشغلا مفضلا للسلطة، لتنفيذ استراتيجياتها، ومدّها بالنخب في منعطفات معينة.
ما هي أبرز الدلالات السياسية لهذه الحكومة إذن؟ ما من شك أن ما حدث قطع الطريق نحو إمكانية تحول المغرب إلى ''ديمقراطية انتخابية'' قابلة للتطور السوسيولوجي والثقافي، ما يعني أن السلطة تعي جيدا أهمية التراكم الانتخابي، وقدرته على تنمية حس المشاركة السياسية لدى معظم قطاعات المجتمع.
نحن أمام حكومة تكنوقراطية، وليست سياسية منبثقة عن الشرعية التي تجسّدها إرادة الناخبين،
حكومة لا علاقة لها إطلاقا بالسيرورة التي بدأت عام 2011 بحراكٍ اجتماعي واسع، وتوّجت بوثيقة دستورية، يفترض أنها وضعت المفاصل الكبرى لوضع المغرب على سكة التحول الديمقراطي السلمي والمتدرج، خصوصا أن هذه الوثيقة نصّت على ''الاختيار الديمقراطي''، باعتباره أفقا واضحا لهذه السيرورة.
يبدو التبني الدستوري لهذا الاختيار كأنه للاستئناس فقط، في ضوء التركيبة الثقافية والاجتماعية التقليدية للسلطة في المغرب، وهشاشة الأحزاب السياسية، وغياب التجديد عن بنية النخب. واقع سياسي يجعل ''الاختيار الديمقراطي''. هنا، لا يعني أكثر من منسوب معين من التحديث المؤسساتي والقانوني، تعمل السلطة على التحامه بسلاسةٍ مع هذا الواقع في مختلف مستويات اشتغاله. إنه ليس أكثر من ''التزامٍ'' بالحد الأدنى مما يعرف باللبرلــة السياسية المتحكّم فيها، وهي غير الديمقراطية، بطبيعة الحال، إذ تحيل على الأنظمة السلطوية التي تسمح بهامشٍ نسبي من الحراك السياسي والاجتماعي الذي يتأسس على توافقاتٍ تسهر (وتشرف) عليها السلطة، وتعمل على تدبيرها وتوجيهها بأقل تكلفة.
يحفل التاريخ المغربي المعاصر بوقائع مماثلة، تعبر عن الترسبات الثقافية التقليدية في الحقل السياسي، وقدرتها على التحكم في منعرجات هذا الحقل. فحين تشكلت حكومة التناوب بقيادة عبد الرحمن اليوسفي عام 1998، اعتقد كثيرون أنها ستمثل نقطة تحوّل نحو الديمقراطية، لكن الأحداث أظهرت لاحقا أنها لم تكن سوى خطوة تكتيكية من السلطة أملتها متغيرات ما بعد نهاية الحرب الباردة، ورغبتها في توسيع قاعدتها الاجتماعية بإدماج نخب أحزاب الحركة الوطنية وكوادرها، وهو ما بدا في الالتفاف على نتائج انتخابات عام 2002 التي تصدّرها الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بتعيين إدريس جطو وزيرا أول بدل اليوسفي.
نجاح السلطة في الالتفاف على نتائج انتخابات 7 أكتوبر، وإدارة مفاوضات تشكيل الحكومة
وتوجيهها نحو هذا المسار، لا يمكن إلا أن ينتج تأويلا سلطويا للاختيار الديمقراطي، الوارد في أكثر من موضع في الدستور. وهو تأويلٌ لا يمكن أن يجعل من هذا الاختيار أفقا سياسيا يجتذب السلطة والنخب نحو مشروع سياسي ومجتمعي متكامل، كما أن تبني حزب العدالة والتنمية هذا التأويل السلطوي بعد تشكيل الحكومة الجديدة، سيدشّن، بالتأكيد، مرحلة جديدة في تطور الإسلام السياسي المغربي، وعلاقته بالسلطة والمجتمع.
من الواضح أن الحزب يدرك أن تركيبة السلطة غير مستعدّة، حاليا، لقبول نفوذه المتزايد في الحقل السياسي، وربما ترى بعض قياداته أن عليه أن يأخذ العبرة من إخفاقات الإسلام السياسي في الجزائر ومصر، وأن يستحضر، في الوقت نفسه، تجربة حزب النهضة في تونس واستراتيجيته المعتدلة في إدارة الاستقطابات الحادّة التي أعقبت ثورة الياسمين. ولكن، لهذا كله تكلفته السياسية والمجتمعية الكبرى، وهو تأجيل مشروع التحوّل الديمقراطي في المغرب إلى إشعار آخر، على الرغم مما يقدّمه الدستور والسياق المجتمعي المغربي من إمكانات هائلة في هذا الخصوص، تدعم هذا التحول، وتفتح أمامه دروبا ومسالك مختلفة.
يبدو ميزان القوى في المغرب في طريقه إلى تعديلاتٍ عميقةٍ تتغذى على ضعف الأحزاب والنخب وعدم استقلاليتها، وانتكاسة الربيع العربي، وفشل معظم مشاريع الانتقال الديمقراطي في المنطقة، الأمر الذي سيعزّز هيمنة السلطة على الحقل الحزبي، خصوصا أنها تعرف جيدا أن الرأي العام الذي يتابع ما يحدث في جواره الإقليمي يفضل الاستقرار الاجتماعي والسياسي على خوض مسارات أخرى، يمكن أن تهدّد هذا الاستقرار.
وإذا كان بعضهم يرى أن عدم فوز الإسلاميين بهذه الوزارات يعود إلى عدم توفرهم على كفاءات متخصصة، فذلك لا يمكن أن يحجب، بأي حال، استمرار هيمنة آلية التنخيب التقليدية في المغرب، سواء من خلال عدد الأحزاب المشاركة (ستة)، أو تأثير شبكات النفوذ والولاء والمحاباة داخل النخب، أو وجود عدد من كتاب الدولة في هذه الحكومة دلالةً على نزوع واضح نحو توسيع دائرة الترضيات، فضلا عن ظفر التجمع الوطني للأحرار بالوزارات المهمة، ذات الصلة بالمشاريع والمخططات الاقتصادية الكبرى التي ينخرط فيها المغرب حاليا، ما يعني أن هذا الحزب ما زال مَشغلا مفضلا للسلطة، لتنفيذ استراتيجياتها، ومدّها بالنخب في منعطفات معينة.
ما هي أبرز الدلالات السياسية لهذه الحكومة إذن؟ ما من شك أن ما حدث قطع الطريق نحو إمكانية تحول المغرب إلى ''ديمقراطية انتخابية'' قابلة للتطور السوسيولوجي والثقافي، ما يعني أن السلطة تعي جيدا أهمية التراكم الانتخابي، وقدرته على تنمية حس المشاركة السياسية لدى معظم قطاعات المجتمع.
نحن أمام حكومة تكنوقراطية، وليست سياسية منبثقة عن الشرعية التي تجسّدها إرادة الناخبين،
يبدو التبني الدستوري لهذا الاختيار كأنه للاستئناس فقط، في ضوء التركيبة الثقافية والاجتماعية التقليدية للسلطة في المغرب، وهشاشة الأحزاب السياسية، وغياب التجديد عن بنية النخب. واقع سياسي يجعل ''الاختيار الديمقراطي''. هنا، لا يعني أكثر من منسوب معين من التحديث المؤسساتي والقانوني، تعمل السلطة على التحامه بسلاسةٍ مع هذا الواقع في مختلف مستويات اشتغاله. إنه ليس أكثر من ''التزامٍ'' بالحد الأدنى مما يعرف باللبرلــة السياسية المتحكّم فيها، وهي غير الديمقراطية، بطبيعة الحال، إذ تحيل على الأنظمة السلطوية التي تسمح بهامشٍ نسبي من الحراك السياسي والاجتماعي الذي يتأسس على توافقاتٍ تسهر (وتشرف) عليها السلطة، وتعمل على تدبيرها وتوجيهها بأقل تكلفة.
يحفل التاريخ المغربي المعاصر بوقائع مماثلة، تعبر عن الترسبات الثقافية التقليدية في الحقل السياسي، وقدرتها على التحكم في منعرجات هذا الحقل. فحين تشكلت حكومة التناوب بقيادة عبد الرحمن اليوسفي عام 1998، اعتقد كثيرون أنها ستمثل نقطة تحوّل نحو الديمقراطية، لكن الأحداث أظهرت لاحقا أنها لم تكن سوى خطوة تكتيكية من السلطة أملتها متغيرات ما بعد نهاية الحرب الباردة، ورغبتها في توسيع قاعدتها الاجتماعية بإدماج نخب أحزاب الحركة الوطنية وكوادرها، وهو ما بدا في الالتفاف على نتائج انتخابات عام 2002 التي تصدّرها الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بتعيين إدريس جطو وزيرا أول بدل اليوسفي.
نجاح السلطة في الالتفاف على نتائج انتخابات 7 أكتوبر، وإدارة مفاوضات تشكيل الحكومة
من الواضح أن الحزب يدرك أن تركيبة السلطة غير مستعدّة، حاليا، لقبول نفوذه المتزايد في الحقل السياسي، وربما ترى بعض قياداته أن عليه أن يأخذ العبرة من إخفاقات الإسلام السياسي في الجزائر ومصر، وأن يستحضر، في الوقت نفسه، تجربة حزب النهضة في تونس واستراتيجيته المعتدلة في إدارة الاستقطابات الحادّة التي أعقبت ثورة الياسمين. ولكن، لهذا كله تكلفته السياسية والمجتمعية الكبرى، وهو تأجيل مشروع التحوّل الديمقراطي في المغرب إلى إشعار آخر، على الرغم مما يقدّمه الدستور والسياق المجتمعي المغربي من إمكانات هائلة في هذا الخصوص، تدعم هذا التحول، وتفتح أمامه دروبا ومسالك مختلفة.
يبدو ميزان القوى في المغرب في طريقه إلى تعديلاتٍ عميقةٍ تتغذى على ضعف الأحزاب والنخب وعدم استقلاليتها، وانتكاسة الربيع العربي، وفشل معظم مشاريع الانتقال الديمقراطي في المنطقة، الأمر الذي سيعزّز هيمنة السلطة على الحقل الحزبي، خصوصا أنها تعرف جيدا أن الرأي العام الذي يتابع ما يحدث في جواره الإقليمي يفضل الاستقرار الاجتماعي والسياسي على خوض مسارات أخرى، يمكن أن تهدّد هذا الاستقرار.