عود على بدء في الجزائر. فبعد شهرين فقط من تعيين حكومة عبد المجيد تبون، تسقط أقصر حكومة في تاريخ البلاد، وتليها حكومة أخرى، سيكون عليها إعادة مناقشة خطتها أمام البرلمان، في ظل وضع سياسي مرتبك وظروف اجتماعية صعبة وأزمة اقتصادية متصاعدة، بفعل استمرار أزمة النفط وانخفاض احتياطات البلاد إلى أقل من 80 مليار دولار. وسيعلن الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، قبل غد الجمعة، عن تشكيلة الحكومة الجديدة، بعد إقالته لرئيسها السابق، عبد المجيد تبون، وتعيين رئيس الديوان الرئاسي، أحمد أويحيى رئيساً للحكومة. ويتوقع أن تحمل الحكومة الجديدة تغييرات طفيفة تخص قطاعات وزارية كانت شريكة، في ما وصفتها الرئاسة، "بحملة التحرش برجال الأعمال والمستثمرين وفوضى المبادرات الحكومية"، وأبرزها الصناعة والتجارة.
وبحسب مصادر جزائرية مسؤولة فإن تغييرات أخرى ستشمل محافظي بعض الولايات الذين سايروا رئيس الحكومة في حملته ضد ما وصفه بالمال السياسي، لكن أهم التغييرات المنتظرة تلك التي تشمل بعض القيادات في الجيش. وتشير المصادر إلى أن بوتفليقة قد يقرر في غضون احتفالات "عيد المجاهد"، وهو مناسبة مرتبطة بثورة التحرير في 20 أغسطس/آب الحالي، توسيم بعض القيادات في الجيش وإحالتهم إلى التقاعد، قد يكون بينهم قائد أركان الجيش، الفريق أحمد قايد صالح، بعدما انساق الأخير في ما وصفته الرئاسة "بالتحرش الحكومي برجال الأعمال وفوضى المبادرات الحكومية". وكانت وزارة الدفاع أعلنت، من جانبها، توجيه اعتذارات إلى شركات يملكها رجل الأعمال، علي حداد، المقرب من سعيد بوتفليقة، شقيق الرئيس الجزائري والممول الرئيس لحملته الرئاسية في انتخابات عام 2014، عن تهديدها بسحب مشاريع بنى تحتية تقوم بتنفيذها هذه الشركات، في سياق سلسلة اعتذارات وجهتها الحكومة، بأمر من رئيسها المقال عبد المجيد تبون، إلى رجل الأعمال. وتشير بعض المصادر إلى أن بوتفليقة استدعى قائد أركان الجيش إلى اجتماع سيعقد خلال أيام.
لكن التغيير الحكومي الجديد، الذي يأتي في أفق انتخابات محلية، من المقرر تنظيمها في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، وتليها المحطة الأكثر إثارة، وهي الانتخابات الرئاسية المقررة في ربيع 2019، حمل عودة أحمد أويحيى إلى صدارة الحكومة. وإن كان هذا التغيير يعني حسم الصراع بين الحكومة السابقة و"الكارتل" المالي لصالح الأخير، فإنه يعني أيضاً حسم أويحيى الصراع لصالح كتلته السياسية المدعومة من قبل "الكارتل" المالي، ودعم موقفه في حال قرر عبد العزيز بوتفليقة استخلافه في سدة الحكم في 2019، بسبب حالة الانضباط التي يتميز بها وإعلانه الولاء المستمر لخيارات بوتفليقة، وهو ما يضع الميراث السياسي لبوتفليقة- كهاجس رئيس لعائلة الرئيس- بين أيد أمينة، في مقابل كتلة ثانية يتمركز فيها القائد الأعلى للجيش، الفريق أحمد قايد صالح، والذي يكون خسر مركزه في لحظة سياسية فارقة، بعدما خسر عدداً من داعميه في الجدار السياسي، كرئيس الحكومة تبون، وخسر في وقت سابق أبرز داعميه، الأمين العام السابق للحزب الحاكم، عمار سعداني. ويحسب المراقبون تفاصيل التغيير الحكومي بترتيبات انتخابات 2019، سواء قرر بوتفليقة البقاء في الحكم لولاية خامسة، هي الثانية في نظر دستور فبراير/شباط 2016، مثلما أشارت تقارير مجلس الشيوخ الفرنسي، أو قرر استخلاف مرشح آخر من مقربيه.
وإذا كانت أحزاب الموالاة، التي تدعم بوتفليقة في سياساته وقراراته من دون أي نقاش، كجبهة التحرير الوطني، التي خسرت رئاسة الحكومة برغم حيازتها على الأغلبية البرلمانية، لصالح التجمع الوطني الديمقراطي، وتجمع أمل الجزائر، والتحالف الجمهوري، والحركة الشعبية الجزائرية، قد حاولت التقليل من الدهشة السياسية التي طبعت المشهد في الجزائر، واعتبار ذلك من صميم صلاحيات الرئيس لتصحيح وضع مختل، فإن كتلة من الأحزاب السياسية المعارضة في الجزائر لم تركز على التعديل الحكومي في شكله السياسي الظاهر، وذهبت إلى أبعد من ذلك، إذ وصفت ما حدث "بالانقلاب" الأبيض الذي نفذه التحالف القائم بين محيط الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، في إشارة إلى شقيقه سعيد بوتفليقة ومنظمات رجال المال والأعمال. واعتبرت حركة مجتمع السلم، كبرى الأحزاب الإسلامية في الجزائر، أن ما حدث هو انقلاب متكامل، وشككت في أن تكون أطراف خارجية قد لعبت الدور الأبرز في ذلك. وبنفس التوصيف قرأت حركة النهضة التعديل الحكومي الطارئ، واعتبرت أنه بات واضحاً اليوم وجود تأثيرات مباشرة على القرار السيادي والسياسي في الجزائر. وتلمح هذه الإشارات بوضوح إلى دور فرنسي في إزاحة تبون، على خلفية سلسلة قرارات اتخذها عندما كان وزيراً للتجارة قبل أشهر، ومنعه استيراد منتجات زراعية من فرنسا، كالتفاح والبرتقال، ما تسبب بكساد موسم التفاح في الجنوب الفرنسي، واستدعى مطالبة رئيس بلدية نيس السلطات الفرنسية بالتدخل لدى السلطات الجزائرية لإلغاء القرار، إضافة إلى منع استيراد عدد من السلع الأخرى من الخارج وأوروبا لحماية الإنتاج الوطني.
وبغض النظر عن هذه المواقف، فإن مواقف سياسية أخرى، لبعض أحزاب المعارضة، كانت أكثر تقدمية، وتعيد إحياء الأرضية السياسية لمؤتمر المعارضة الذي عقد في يونيو/حزيران 2014، والتي تتعلق بالدعوة إلى إعلان شغور منصب الرئيس بسبب مرض بوتفليقة منذ إبريل/نيسان 2013، وفقاً لما تنص عليه المادة 102 من الدستور، وتنظيم انتخابات رئاسية مسبقة ومرحلة انتقالية تنتهي بانتخابات برلمانية نزيهة. وطالب حزب جيل جديد بتطبيق المادة الدستورية المذكورة، محذراً من فوضى في البلاد في حال استمر التلاعب بمؤسسات الدولة، ومن تداعيات انتصار "الكارتل" المالي في صراعه مع رئيس الحكومة المقال. وعبر حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية، عما وصفه، بالخطورة الكبيرة والمنحى المقيت الذي وصل إليه الصراع في أعلى هرم السلطة. وتبنى نشطاء في حركة "بركات" –كفاية- المناوئة للولاية الرئاسية الرابعة في مارس/آذار 2014، الموقف نفسه. وأعلن العضو القيادي السابق في الحركة، عبد الوكيل بلام، أن تطبيق المادة 102 من الدستور بات أمراً ضرورياً أمام حالة التلاعب بمؤسسات الدولة. واعتبر القيادي السابق في جبهة القوى الاشتراكية، أكبر أحزاب المعارضة السياسية في الجزائر، محمد أرزقي فراد، أن "إبعاد عبد المجيد تبون عن السلطة، بعد أشهر قليلة من تعيينه، فصل جديد من العبث السياسي الذي صار سمة بارزة لحكم ما بعد 1999، وهذا التصرف العبثي يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك شغور منصب رئيس الجمهورية، وأن صلاحيات الرئيس قد صارت تمارس من قبل أطراف أخرى". واعتبر أن "تطبيق المادة 102 من الدستور المتعلقة بشغور منصب رئيس الجمهورية، أصبحت أمراً ملحاً"، مطالباً "النخبة العلمية والسياسية والمجتمع المدني بالدفاع عن مؤسسات الدولة". فصل جديد من الصراع السياسي في الجزائر، تؤججه شكوك حول من يدير دفة الحكم في البلاد بسبب استمرار غياب بوتفليقة عن المشهد، منذ إصابته بوعكة صحية في إبريل 2013، وأوضاع سياسية مشحونة تدعم قراءات المعارضة وتحذيراتها السابقة من المخاطر المحدقة بالبلاد، وأفق غامض على مقربة شهرين من انتخابات محلية، وعلى بعد أقل من سنة ونصف السنة من انتخابات رئاسية، ترتبط بها عدة رهانات وتتداخل فيها تقاطعات المصالح بين أطراف داخلية وقوى غربية ما زالت حريصة على ملاحقة وتحصيل مزيد من المصالح والنفط والثروات في الجزائر.