في ظهور هو الأول من نوعه منذ منتصف عام 2014، بدا زعيم تنظيم "داعش"، المطلوب الأول عالمياً إبراهيم عواد البدري، المعروف بلقب أبو بكر البغدادي، يحاول إيصال رسائل عدة، لأتباعه على وجه التحديد، ولمن يبحث عن رأسه، بمن فيهم سكان المدن التي احتلها في شمال العراق وغربه وشرق سورية وشمالها، التي خرج منها مدمرة. ورأى مراقبون مهتمون بإصدارات "مؤسسة الفرقان"، الذراع الإعلامية لـ"داعش"، أن "البغدادي بدا في الشريط المسجل ضعيفاً معنوياً". واعتبروا أنه "أظهر ارتباكاً واضحاً من حركة يديه ورأسه ومحاولة تجنبه النظر في الكاميرات بشكل مباشر، مع بدانة واضحة لا تشير إلى أنه كان من بين الذين تمّت محاصرتهم في الباغوز أو هجين أو ريف دير الزور". هناك أكل السكان أوراق الأشجار بسبب المجاعة. كما ظهر مرتدياً ملابس شتوية لا تناسب الطقس الحالي في العراق أو سورية، وهو ما دفع إلى التكهن بأن توقيت التسجيل كان قبل شهر من الآن على أقل تقدير.
بدورهم، أكد مسؤولون في بغداد، أن "التسجيل لم يكن مفاجئاً لهم، كون جميع المعلومات السابقة، بما فيها الروسية، التي تحدثت عن قتل البغدادي كانت غير صحيحة وتفتقد للدقة". وقال ضابط بوكالة المخابرات العراقية لـ"العربي الجديد"، إن "وقت خروج البغدادي بالتزامن مع انتهاء القوات العراقية من تطهير مناطق سلسلة جبال حمرين ومناطق خلايا مسلحة تابعة للتنظيم في صحراء الأنبار، قد يكون مقصوداً، فخلايا داعش في أضعف حالاتها منذ تحرير الموصل وتفرّقهم بالصحراء بشكل غير مخطط له وفوضوي".
وكشف عن أن "فرق تحليل معلومات بالتعاون مع التحالف الدولي باشرت بتحليل الفيديو وما جاء على لسان البغدادي والأماكن المحتمل وجوده فيها، وجرى استبعاد سورية، مع التركيز على أنه داخل العراق ولا يتنقل على الإطلاق. ومن غير المستبعد أن يكون في مكان تحت الأرض تمّ إعداده له مسبقاً، بعد تيقنه من خسارة مشروعه في العراق وسورية".
الخبير بشؤون الجماعات الإرهابية في العراق محمد الدليمي، قال لـ"العربي الجديد"، إن "الحديث عن تهديدات إرهابية أو إعادة تجمّع خلايا داعش من جديد في المدن العراقية مبالغ به جداً، وأقصى ما لدى التنظيم اليوم هو عبوات ناسفة أو سيارة مفخخة، وبالعادة لن تستهدف إلا الأبرياء المدنيين".
ولم ينف إمكانية أن "تُستغل عملية ظهور البغدادي سياسياً في العراق من قبل القوى المؤيدة للبقاء الأميركي في بلاد الرافدين، وكذلك القوى التي ترفض سحب المليشيات من المدن العراقية المحررة، وتزعم أن داعش ما زال خطره قائماً". وأضاف أنه "في سورية سيلعب النظام بشكل مناسب على تسجيل البغدادي، فداعش قدم خدمات جليلة للنظام طوال السنوات الماضية وكان جزءاً من غطائه الذي يذبح به شعبه. وفي العراق هناك أطراف متناقضة كثيرة ستستغل التسجيل، أولها الولايات المتحدة التي ستعتبر ظهور البغدادي تأكيداً لصحة موقفها بالأسابيع الأخيرة من استمرار خطر التنظيم وأهمية بقاء التحالف الدولي في العراق وقواتها، ورفض دعوات سن قانون إخراج القوات الأجنبية من العراق، الذي تتبنّاه قوى سياسية وفصائل مسلحة مرتبطة أو قريبة من إيران. وهو ما سيمنح الحكومة العراقية أيضاً حجة لتبرير الوجود الأجنبي على اعتبار أن التنظيم أعلن على لسان زعيمه أنه يستعد لهجمات انتقامية في العراق".
بالإضافة إلى ذلك، فإن الفصائل المسلحة في العراق ستجد ما تبرر به أو ترد على المطالبين بانسحابها من الموصل والفلوجة ومناطق أخرى في شمال العراق وغربه، على اعتبار أن وجود القوات النظامية كاف. فظهور البغدادي يعني أن للمليشيات بمختلف مسمياتها غطاء البقاء وهو محاربة ما بات يعرف اليوم بـ"بقايا داعش".
ويمكن ملاحظة تفصيل جديد هو إيراد زعيم التنظيم خبر مبايعة المتطرفين في دولتي مالي وبوركينا فاسو، ثم تطرقه إلى جناح التنظيم في ليبيا على وجه التحديد وتطورات القتال قرب مدينة سرت. ما يؤشر على أن الخطاب كان موجهاً أيضاً لقيادات انشقت عنه، مثل أبو محمد العراقي ونصر الحجازي وآخرين نهاية العام الماضي، يراد منها القول إنه ما زال قوياً أو متبعاً، وأن انشقاقهم لم يؤثر على بنية التنظيم، وقد تكون موجهة أيضاً إلى خلايا التنظيم التي انقطع التواصل بينها وبين البغدادي.
مع العلم أن خبر انشقاق عضو الهيئة الشرعية أبو محمد الهاشمي، الذي أصدر قبل أسابيع كتاباً مختصراً بعنوان "كفوا الأيادي عن بيعة البغدادي"، يحوي على نقض بيعته للبغدادي بسبب ما اعتبره "جملة من المخالفات التي ارتكبها". ودعا الهاشمي إلى "قطع رأس البغدادي". والكتاب يعتبر رداً على كتاب آخر بعنوان "مدوا الأيادي لبيعة البغدادي"، صدر مع اتساع رقعة سيطرة تنظيم "داعش" في سورية والعراق.
في كل الأحوال خطاب البغدادي الثاني بعد الأول الذي ارتقى فيه منبر جامع النوري في الموصل متوعداً بما سماه "فتح روما وباريس بعد السيطرة على بغداد ودمشق"، لم يلق تفاعلاً من سكان المدن العراقية في شمال وغربي البلاد المدمرة، ولا حتى على مستوى الساحة السورية المنكوبة، إلا بقدر ما ذكّرهم بسنوات طويلة مُنعوا خلالها من قِبل أفراد تنظيمه من الفرار من القصف بالبراميل والصواريخ، بل طلب التنظيم من الأهالي الموت في "أرض الرباط"، مهدداً بقتل من يفكر بالفرار منها إلى "ديار الكفار"، وكيف أن "خليفة" التنظيم كان أول الفارين وأكثرهم بدانة في مجلسه الجديد.