اتّهمت المنظّمات الإنسانية النظام السوري بشنّ حرب وحشية ضدّ الأهالي، موثّقة بآلاف الصور، تمثّل ما ارتكبته أجهزة الأمن والجيش من جرائم اعتمدت أساليب القتل الممنهج، أحدها الموت تحت التعذيب. في المقابل، اعترف "المجتمع الدولي" بأنها قضية تمثّل جرائم ضد الإنسانية، لا تقلّ عن الإبادة، ومع أنها أُثيرت عالمياً، تمادت الأطراف المعنية بالعدالة في إهمالها، بإدراجها في متاهة الآليات البيروقراطية، وإغلاق الطريق إلى المحاكم الجنائية الدولية.
هذه الجرائم التي بدأت بإطلاق الرصاص على المتظاهرين العزّل، ومداهمة البيوت، والاعتقالات من الشوارع والأماكن العامّة، ارتقت خلال الحلول الأمنية والعسكرية إلى الإعدامات الفورية، والتفنّن في أساليب التعذيب وتصويرها ونشرها في اليوتيوب لبثّ الرعب، وإجراء محاكمات صورية لا يأخذ إصدار الأحكام فيها أكثر من دقيقة واحدة، إضافة إلى قصف المستوصفات والمستشفيات والمساجد والأفران، وتحويل السجون إلى قبور للموت البطيء بالأمراض والموت اختناقاً لاكتظاظها بالمساجين. وفي المستشفيات الحكومية، أُفردت مهاجع خاصة لتعذيب المعتقلين المرضى.
لم يتّخذ "المجتمع الدولي" إجراءات صارمة لوقف هذه التجاوزات اللاإنسانية، ما سمح باستمرارها طوال سنوات الحرب، لم تنته حتى هذه اللحظة. وكان في تغييبها وعدم التطرُّق إليها إيحاء ببراءة المسؤولين عنها، رغم أن الأهالي أُبلغوا بوفاة مئات المعتقلين، كانوا دفعة تلتها دفعات، قُتلوا تحت التعذيب، وبلغ الادعاء بالسلطة حدّ قولها أنهم ماتوا بالجلطة أو السكتة القلبية.
لا تقتصر الاتّهامات على النظام فقط، بل تطاول التساؤلات الجهات التي تحميه في ارتكابه الجرائم دونما رادع، ما يشير إلى أن بقاءه المفضوح مدينٌ للدول المتستّرة عليه، وإذا أردنا اتهامها، فليس روسيا وإيران فقط، هؤلاء شاركوا بالقتل، أي أنهم القتلة بالذات إلى جوار النظام. الفيتوات والطائرات الروسية قتلت الآلاف وشرّدت الملايين. ودولة الملالي أرسلت ما هبّ ودبّ من المليشيات المذهبية بذرائع دينية.
شاركت حكومات العالم الديمقراطي في مجزرة الصمت، بمنع العدالة عن أخذ مجراها بتأجيلها بزعم أنها ستحلّ في المستقبل، وإذا كانت قصّة الهجمات الكيميائية تُثار بين فترة وأخرى، فإنَّ جمع الأدلّة، يجري ببطء شديد مع الكثير من العراقيل في التحقّق منها، وقد تستغرق سنوات، وربما عقوداً وأعماراً، قد تثير ما يشبه اللغط، سرعان ما يتوارى في زحمة اجتماعات ولقاءات تُفضي إلى لا شيء.
يريد الأهالي المفجوعون رؤية العدالة تنتصف لشهدائهم في حياتهم، لا سيما أنّ المجرم طليق، يمارس القتل، فيما دول كبرى تسانده، فما كنه هذه العدالة الممنوعة، وكيف ستتحقّق إذا كانت خاضعة للفيتوات والتنازلات والمساومات الدولية؟
في عدم استقلالية العدالة، وإفساح المجال لتدخُّل الدول، مقتلٌ للعدالة نفسها. إنَّ منعها من العمل بالمماطلات وتمييع الإجراءات احتقارٌ للحقيقة وإغفالٌ للضحايا ومزيدٌ من العذاب لأهاليهم، بينما المجرمون مطمئنون لإفلاتهم من العقاب، يبتدعون أساليب للتهرُّب حتى من عدالة مؤجّلة إلى ما بعد موتهم، وإذا أُدينوا يوماً ما، فليس أكثر من تسجيل رمز لانتصار متأخّر لعدالة طاولتهم أمواتاً، ولم تمسّهم أحياءً.
العبرة من المقتلة السورية، أن من الممكن دفن الحقيقة مهما امتلك أصحابها من وثائق وصور، وشهود عيان، وشهادات، وشهداء، ولاجئين، ونازحين، وقبور جماعية، وسجون، ومشانق، ومحاكم صورية، وفرق إعدام ميدانية، واغتيالات، وعصابات نهب وسلب... ما يدلّ بصورة جليّة على أن أكبر جريمة في العصر الحديث من الممكن دفنُها تحت أكوام من الأكاذيب، وتواطؤ بلدان لا فرق إن كانت ديمقراطية أو غير ديمقراطية، تشارك بها دول كبرى وإقليمية، وشموليات رثّة، ودكتاتوريات لا تخشى الوقائع الدامغة.
الدلالة المروّعة: ما دام هناك من لا يعبأ بالعدالة، ولديه القدرة على تعطيلها، فإدانة الإجرام قضية شكليات، تذهب بها الدبلوماسية السرية.