دفاتر فارس يواكيم: لورنس هارفي... الممثل الهوليوودي واللغز الإيطالي في بيروت

08 يوليو 2019
لورنس هارفي بدور الملك ريتشارد (Getty)
+ الخط -
بين المسرح والإذاعة والموسيقى، قضى فارس يواكيم (1945، مصر)، عقوداً من حياته مواكباً ومؤرّخاً ومشاركاً في أبرز محطات المشهد الفني العربي في القرن الماضي، وشاهداً على التحوّلات في عالم الفنّ.
تنشر "العربي الجديد" كل يوم اثنين، مذكرات يواكيم مع أبرز الفنانين والمنتجين والمخرجين العرب، مستعيدة محطات شخصية ولقاءاته مع هؤلاء في القاهرة وبيروت وباريس وغيرها من العواصم.



ذات مساء من مارس/ آذار 1968 كنت على موعد مع الرئيس اللبناني الأسبق كميل شمعون لإجراء مقابلة صحافية. ونظراً لضيق وقته، طلب أن يكون اللقاء في مطعم "لوكولوس" (مطعم فرنسي في سوق الطويلة، بيروت)، قبل نصف ساعة من تناوله وجبة العشاء هناك. وبالقرب من ذلك المطعم الفرنسي يقع مطعم العجمي الشهير، ومحل عبود للسجاد والتحف الشرقية.
هناك رأيت حشداً من الناس وبعض رجال الشرطة من الفرقة 16 بقبعاتهم الحمراء الشهيرة. ظننت أن هناك مشاجرة عنيفة بسببها تمّ استدعاء الشرطة، أو أن التجمهر هو من مناصري الرئيس شمعون ورجال الأمن هم من عناصر الحماية. وعندما دنوت لمعت أضواء مصابيح كبيرة في عينيّ ورأيت الأسلاك الكهربائية ممتدة كالنهر في طول الشارع ولمحت سيارة التوليد الكهربائي التابعة لاستديو بعلبك فأدركت أن الأمر يتعلق بتصوير فيلم سينمائي.
شققت طريقي وسط التجمع ولمحت داني طبارة وكان يعمل مساعداً للإخراج، خصوصاً في الأفلام الأجنبية التي تصوّر في بيروت. والتقيت بالمنتج السينمائي اللبناني أديب جابر، وعرفت أنه المشرف على تنفيذ الفيلم وإدارة الإنتاج في لبنان. وكان استديو بعلبك في أوج نجاحه يقدم التسهيلات للأفلام الأجنبية، المصرية منها والعالمية، وكان المشروع الذي أسسه "بنك أنترا" يرمي إلى جعل بيروت عاصمة لتصوير الأفلام، فالمناظر الطبيعية متوفرة: جبال، وسهول، وبحور، وأنهار، وشمس وثلوج. والديكورات متوفّرة، من الفنادق إلى المطاعم، ودور الأزياء، والأسواق المخملية، والشعبية.

وفي أعقاب حرب يونيو/ حزيران 1967، شهدت سوق إنتاج الأفلام المصرية كساداً وانتقل جزء من الإنتاج إلى بيروت وأقام بعض النجوم والمخرجين والمنتجين في بيروت، وارتفع معدل تصوير الأفلام في لبنان. أخبرني داني طبارة بأنه يعمل في الفيلم الذي عنوانه Rebus (عند العرض كان عنوانه العربي "اللغز")، وأن المخرج إيطالي يدعى نينو زانكين. قلت "لم أسمع به من قبل"، قال: "كان مساعداً للمخرج المعروف بيترو جيرمي والآن أصبح مخرجاً، وهذا ثاني أفلامه". قلت "العقبى لك". أضاف يقول: "والبطلة اسمها آن مارغريت. هي ممثلة أميركية من أصل سويدي لم تصبح نجمة شهيرة بعد. أما البطل فهو الممثل المعروف لورنس هارفي". قلت "هذا أعرفه وشاهدت أفلاماً من بطولته. أذكره في دور الانتهازي المتسلق في فيلم (غرفة في القمة) مع سيمون سينورييه، وهي حصلت على الأوسكار عن دورها في هذا الفيلم". قال: "هو ذاته. لم يصل بعد لكنه سيأتي". قلت: "وأنا سأرجع بعد نصف ساعة".

دخلت مطعم "لوكولوس" وأسرعت إلى الحمام لكي أقضي حاجة. وفي الحمام، التفتُّ إلى جواري، فإذا رجل يتبوّل أيضاً. وجهه أعرفه. إنه يشبه الممثل لورنس هارفي تماماً. حدقت في وجهه أتفحصه، فبادرني بقوله "نعم، أنا هو". فقلت بسرعة كمن ينتهز فرصة تاريخية "أنا صحافي شاب وأرغب في إجراء مقابلة معك"، قال: "حسناً، ولكن ليس هنا". ضحكت وقلت له "طبعاً ليس هنا". وحين همّ بمغادرة المطعم أخبرته بأنني سأذهب إلى موقع التصوير ويا ليت تسنح الفرصة. اعتذر لأنه سيكون منشغلاً للغاية، لكنه أعطاني موعداً في اليوم التالي في بار فندق السان جورج. بعد المقابلة مع الرئيس كميل شمعون، مررت بموقع تصوير الفيلم، وأخذت أراقب التصوير من مكان لا يزعج أحداً. كانت اللقطة التي يجري الاستعداد لتصويرها عبارة عن محاولة سرقة المحل المليء بالسجاد العجمي والأواني الشرقية، وهجوم رجال الشرطة من عناصر الفرقة 16. وفهمت أن المشهد سوف يصوّر داخل المحل ثم خارجه. وعلى الشاشة لدى العرض سوف تكون المسافة الزمنية بين اللقطتين في حدود الثانية الواحدة، بينما تصويرهما استغرق ثلاث ساعات. في الفترة الانتقالية بين التصوير داخل المتجر وخارجه قدّمني داني طبارة إلى المخرج نينو زانكين وأخبره بأنني درست الإخراج السينمائي في المعهد العالي للسينما في القاهرة، وأنني أرغب في مقابلة صحافية سريعة معه. قال المخرج: "إذا كانت مقابلة قصيرة فهيّا الآن ريثما يجهزون معدات التصوير في الخارج".

سألت المخرج في البداية عن موضوع الفيلم، قال: "العقدة الرئيسية تدور حول محاولة سرقة في كازينو لبنان تنفذها عصابة دولية بطريقة فذّة. وفي السيناريو مغامرات ومطاردات بوساطة الإنتربول والشرطة اللبنانية". وأخبرني بأن الفيلم ذو طابع كوميدي رغم الحبكة البوليسية. وقال: "كان من المقرر في البداية أن يتمّ تصوير الفيلم بأكمله في لبنان، لكننا نقلنا تصوير بعض المشاهد إلى فنزويلا وانكلترا". سألته بنبرة فيها عتب "لماذا؟"، أجاب: "كنت متخوفاً. سبق لي أن شاهدت بعض الأفلام الإيطالية التي تمّ تصويرها في لبنان كانت دون المستوى المشجّع. لكنني اكتشفت الآن أن العيب كان في الذين نفذوا هذه الأفلام. لبنان بلد جميل وغني بالأماكن التي تغريك بالتصوير".

ثم سعيت لإجراء مقابلة مع الممثلة آن مارغريت، لكنها كانت تستعد لمغادرة موقع التصوير والعودة إلى الفندق يرافقها زوجها الممثل الذي أصبح أيضاً مدير أعمالها، العملاق روجر سميث، الذي يفوقها طولاً بعدة سنتيمترات. ولدى خروجي من المتجر، وجدت جمهرة الناس ما زالت متجمعة يتابعون تصوير الفيلم بفضول. تغيّرت الوجوه، لكن وجوهاً جديدة وفدت. سمعت لدى مروري بعض التعليقات، منها سيدة تقول لرجل يقف بجوارها "ما عرفنا حدا من الممثلين"، وهو علّق "هيئتهم افرنج"، وسأل شاب صديقاً له "قولك ستطلع صورتنا في الفيلم؟"!

وفي اليوم التالي، وقبل أن ألتقي بلورنس هارفي، دار شريط أفلامه في ذهني. البلاي بوي أمام جولي كريستي في فيلم "دارلينغ"، ومع فرانك سيناترا في "عميل منشوريا" (عنوانه بالإنكليزية The manchurian candidate وأعطي عنوانا فرنسياً Un crime dans la tete أو "جريمة في الذهن")، وهو من أفلام الخيال السياسي – البوليسي تدور أحداثه في كوريا أثناء الحرب الباردة والصراع الأميركي السوفييتي. ولورنس هارفي في دور الضابط الأميركي الذي يقع أسيرا في منشوريا، ويتعرض لعملية غسيل دماغ متقنة فيصبح من الخلايا النائمة ويعود إلى الولايات المتحدة مكلفا باغتيال الرئيس الأميركي. وتذكرت لورنس هارفي مع بول نيومان وإدوارد ج. روبنسون في فيلم "الاعتداء" The Outrage، وهو نسخة أميركية مقتبسة من الفيلم الياباني الشهير "راشومون" الذي كان الكبير أكيرا كوراساوا قد أخرجه. ومرّت في ذهني مشاهد لورنس هارفي مع جين فوندا، وآن باكستر، وبرباره ستانويك في "السير في الجانب الوعر".

بلغت فندق السان جورج في الموعد المحدد ووجدت لورنس هارفي في البار يحتسي الويسكي ومعه سيدة جميلة يبدو أنها تكبره سناً. عرّفني بها. إنها ممثلة أميركية تدعى جون بيري. (زوجته الثانية. والزواج تمّ في العام نفسه 1968).
سألته هل يصنف نفسه ممثلاً أميركياً أم إنكليزياً، قال: "كلاهما. بدأت الاحتراف في إنكلترا واكتسبت شهرتي العالمية في هوليوود". وعلمت أنه في الأصل ليس إنكليزياً ولا أميركياً. هو مولود في ليتوانيا. وهو لم ينشأ في ليتوانيا بل في جنوب أفريقيا التي هاجر أبوه متعهد البناء إليها بينما هو كان في الخامسة من عمره. وهو في الأصل لا يدعى لورنس هارفي. هذا اسمه الفني، أما اسمه الحقيقي فهو لاروشا سكيكني. وهو انتقل إلى لندن سنة 1946 في أعقاب الحرب العالمية الثانية وكان في السابعة عشرة من عمره. وفي العاصمة البريطانية درس فن التمثيل في الأكاديمية الملكية للفن الدرامي. وبدأ حياته المهنية ممثلاً مسرحياً في فرقة الأولد فيك العريقة المتخصصة في المسرح الشكسبيري. ولم تكد سنة تمضي على إقامته في لندن حتى بدأ التمثيل في أول أفلامه السينمائية "منزل الظلمات".

كان قد بدأ يحتسي كأس الويسكي الثانية عندما سألته عن دوره في فيلم "اللغز"، قال: "أمثل دور كروبييه (أي الذي يدير اللعب على طاولات الروليت في كازينو القمار) اشتهر في الماضي بأنه ملك الروليت. أما وقد انحسرت الأضواء عنه وأصبح عاطلاً من العمل، فصار يشرب الخمر باندفاع جعله مدمناً"، سألته ممازحا: "هل كأس الويسكي الثانية للتدريب على أداء الدور"؟ ضحك وأجابني: "لا طبعاً. دوري يقتضي أن أكون سكيراً ولن أشرب قنينة كاملة قبل تصوير المشاهد". ثم استرسل يحكي لي بعض التفاصيل من دوره: "إلى أن ابتسم الحظ ذات يوم لملك الروليت السابق عندما لاحت أمامه فرصة العمل من جديد. كانت هناك عصابة إجرامية دولية متخصصة في التزوير والتلاعب بطاولات القمار، وكانت قد أعدت خطة جهنمية متقنة لتنفيذ عملية تزوير واحتيال وتلاعب ضخمة في كازينو لبنان. وقد علمت الشرطة بذلك وتعاون الإنتربول مع الشرطة اللبنانية. اتصلوا بالكروبييه وعرضوا عليه معاودة العمل ليستفيدوا من خبرته السابقة في اكتشاف الاحتيال، مما يسهل عملية القبض على المجرمين. وكان الكروبييه آنذاك عاشقاً لمغنية تدعى لارا وتعمل في إحدى صالات كازينو لبنان (مثلّت آن مارغريت الدور). لكن هذه المرأة الغامضة لم تكن تحبه، بل هي مغرومة برئيس العصابة الإجرامية... وهذا عقّد المواقف".

وانتقل لورنس هارفي من الحديث عن الفيلم إلى الحديث عن كازينو لبنان. قال إنه من أفخم الكازينوهات التي رآها. وأخبرني بأنه حضر الاستعراض الضخم الذي كان يقدم في الكازينو بإخراج شارلي هانشيس، ووجده في مستوى أوروبي لا يقل عما يُقدّم في باريس في الـ"مولان روج" أو الـ"فولي بيرجير". وقال أيضا: "لن أنسى المنظر الساحر الذي تراه عندما تنظر من أعلى الكازينو إلى البحر في أسفل الجبل" (خليج المعاملتين).

بعدها، لم تسنح لي فرصة مشاهدة فيلم "اللغز" لدى عرضه. لكنني صرت بين الحين والآخر أتابع أخبار لورنس هارفي الممثل الذي عرفته. قرأت أنه مثل فيلماً من إخراج أورسون ويلز. لكن الفيلم الذي لقي رواجاً كان ذلك الذي شارك فيه النجمة إليزابيث تايلور دور البطولة، فيلم "سهر الليالي" سنة 1973. وقرأت أنه رغب في ممارسة إخراج الأفلام للمرة الثانية. كانت المرة الأولى عندما أخرج فيلم "الاحتفال" The ceremony سنة 1963. واستطاع أن يحقق مشروعه فأخرج فيلم "أهلاً بكم في شاطئ آروو" Welcome to Arrow Beach. كان فيلمه الثاني والأخير كمخرج، إذ توفي يوم 25 نوفمبر/ تشرين الثاني 1973 بعد معاناة من الإصابة بداء السرطان في المعدة. توفي في لندن عن عمر ناهز الخامسة والأربعين.
دلالات
المساهمون