بين المسرح والإذاعة والموسيقى، قضى فارس يواكيم (1945، مصر)، عقوداً من حياته مواكباً ومؤرّخاً ومشاركاً في أبرز محطات المشهد الفني العربي في القرن الماضي، وشاهداً على التحوّلات في عالم الفنّ. تنشر "العربي الجديد" كل يوم اثنين، مذكرات يواكيم مع أبرز الفنانين والمنتجين والمخرجين العرب، مستعيدة محطات شخصية ولقاءاته مع هؤلاء في القاهرة وبيروت وباريس وغيرها من العواصم.
في مطعم الفندق في موسكو سنة 1971 عزفت الفرقة الموسيقية مقطوعة أعرفها تماماً كأنها موسيقى "يا زهرة في خيالي" لفريد الأطرش بكاملها. فهمست في أذن الصديق الجالس بجواري "ضبطناك متلبساً يا فريد". حين انتهى العزف صفق الرواد وأعلن رئيس الفرقة أننا استمعنا لمعزوفة من تأليف الملحن المصري فريد الأطرش. صفقنا وعاتبنا أنفسنا على سوء الظن الناجم عن اعتيادنا على سماع "الألحان الملطوشة". لكن هذه المرّة كانت المقطوعة من إبداع فريد الأطرش. السوفييت أحبوا نغمة التانغو وعزفوها ونسبوها لصاحبها.
ومنذ فترة تمّ تداول مقطع فيديو على صفحات "فيسبوك" مصوّر في حديقة قصر شونبرن في فيينا تظهر فيه أوركسترا تعزف لحن "ليالي الأنس" لفريد الأطرش أيضاً. ورافق العرض لوحة راقصة على أنغام الفالس التي تفتتح اللحن، ثم شاهدنا الرقص الشرقي بأداء راقصات باليه على أنغام المقامات العربية عندما امتزجت باللحن. أيضاً صفق الجمهور بحرارة، وأنا أمام شبكة الاتصال وضعت لايك وشير. وسعدت لأنني رأيت الفرق الأوروبية تعزف موسيقانا، ولأن فنوننا أصبحت للتصدير وليس لمجرد الاستيراد.
فريد الأطرش سليل الأسرة السورية العريقة ولد في بلدة القريّا في محافظة السويداء في جبل العرب (10 أكتوبر/تشرين الأول 1910)، انطلقت شهرته الفنية من القاهرة التي لجأ إليها وهو فتى يافع وما لبث أن اكتسب الجنسية المصرية. وأمضى معظم أوقات السنوات الأخيرة من عمره في بيروت، وفيها توفّي يوم 26 ديسمبر/كانون الأول 1974، وشُيّعت جنازته إلى مطار بيروت، ونقل جثمانه إلى القاهرة ودُفن بحسب وصيته بجوار شقيقته أسمهان.
جمع في شخصه ثلاث مواهب: المغني المطرب، والملحن المتميز، والعازف البارع على العود. وكان في المجالات الثلاثة اسماً على مسمّى: فريداً في لونه. لحّن وغنّى مجموعة من الأغاني التي أصبحت من كلاسيكيات الغناء العربي، وأكتفي هنا بذكر بعضها مثل "أول همسة" و"الربيع" و"بنادي عليك". وغنىّ الآخرون من ألحانه وأولهم شقيقته أسمهان، المطربة ذات الحنجرة الذهبية، وكانت ألحانه لها تقف على قدم المساواة مع ألحان محمد القصبجي وزكريا أحمد ورياض السنباطي، نذكر منها على سبيل المثال: "ليالي الأنس في فيينا" و"يا بدع الورد" و"أهوى" و"نويت أداري آلامي".
اقــرأ أيضاً
غنّى العديد من نجوم الطرب ألحاناً من فريد الأطرش. سأكتفي بالتذكير بواحدة: وديع الصافي (على الله تعود)، صباح (يا دلع)، شادية (يا مجربين الهوى)، وردة (روحي وروحك)، فايزة أحمد (يا حلاوتك يا جمالك)، سميرة توفيق (بيع الجمل)، نور الهدى (إن جيت للحق أنا زعلانة)، نجاح سلام (زنوبة)، محرّم فؤاد (يا واحشني ردّ علييّ)، عصام رجي (هزّي يا نواعم)، وسعاد محمد (بقى عايز تنساني). وحينما أرادت الفتاة نهاد حداد العمل في كورس الإذاعة غنّت أمام اللجنة الفاحصة لحن فريد الأطرش لأسمهان "يا ديرتي ما لي عليك لوم". لكنها عندما أصبحت فيروز الشهيرة لم تشدو بلحن له. ولم ينزعج فهي تزوجت الملحن عاصي الرحباني، كما لم يتحسر لغياب صوت عبد الوهاب عن ألحانه هو، فعبد الوهاب يلحن أغانيه بنفسه.
لكن الذي أحزنه أن صوت أم كلثوم تمنّع على ألحانه. لمرّتين جرت محاولة اللقاء الفني بينهما. في المرة الأولى لحن قصيدة الأخطل الصغير "وردة من دمنا" وهي عن فلسطين. لم تغنّها أم كلثوم وتذرعت بأنها أغنية وطنية تذاع في المناسبات فقط وهي بحاجة لأغنية عاطفية تذاع باستمرار. ولاحت الفرصة عندما لحن فريد الأطرش المذهب والمقطعين الأولين من "كلمة عتاب" التي نظمها أحمد شفيق كامل، وهو مؤلف "إنت عمري" وصديق الطرفين. ولم يكتب للمحاولة الثانية النجاح برغم أن اللحن كان أقرب إلى لون أم كلثوم من لحن قصيدة الأخطل. سجّل فريد اللحن على شريط يرافقه عوده، ولاحقا أكمل بليغ حمدي تلحين بقية الأغنية وأنشدتها وردة.
على أن فريد الأطرش فرض اسمه كملحن ومطرب في دنيا النغم، وكأحد أمراء العزف على العود. وكان تعلّم العزف عليها على يد فريد غصن، اللبناني المقيم في القاهرة آنذاك، وعلى يد الملحن الكبير رياض السنباطي. وكان فريد الأطرش يفتتح حفلاته العامة بوصلة عزف على العود ينتظرها الجمهور بشغف وتعتبر جزءاً لا يتجزأ من برنامج الحفل.
وبرغم نجاحه الباهر في الموسيقى لم يصبح فريد الأطرش ذات يوم ممثلاً موهوباً. شأنه شأن الموسيقار محمد عبد الوهاب. لكن وجوده في دور البطولة كان ضمانة أكيدة للنجاح التجاري. أفلام فريد الأطرش حققت إيرادات عالية جداً في عموم العالم العربي، واحتلت الصدارة دائما في بلدان المغرب العربي. بلغ مجموع أفلامه 31 فيلماً أولها "انتصار الشباب" وقاسمته أخته أسمهان البطولة سنة 1941 وهو من إخراج أحمد بدرخان، وآخرها "نغم في حياتي" سنة 1974 وهو من إخراج هنري بركات، أكثر المخرجين تعاوناً مع فريد الأطرش إذ أخرج 11 فيلماً، وحلّ أحمد بدرخان في المرتبة الثانية مخرجاً 9 أفلام. وكان فريد الأطرش قد صوّر أفلامه الثلاثة الأخيرة في لبنان: نغم في حياتي، وقبله "زمان يا حب" 1973 من إخراج عاطف سالم وبطولة زبيدة ثروت، وقبله "الحب الكبير" 1968 إخراج بركات والبطلة أمام فريد هي فاتن حمامة. وفي هذا الفيلم تعرفت على فريد الأطرش عندما اشتغلت مساعدا للمخرج.
كان تصوير المشاهد التي يشارك فيها فريد الأطرش يجري بعد الظهر لأنه يستيقظ في هذا الوقت، فمن عادة فريد السهر طول الليل وهو يخلد إلى النوم في أولى ساعات الصباح. ومن ذكرياتي في هذا الفيلم لقطة أعيد تصويرها 18 مرة. في اللقطة يشهر عبد السلام النابلسي المسدس في وجه فريد الأطرش. والمشهد جدي وليس كوميدياً. لكن في كل مرة شهر فيها النابلسي مسدسه انفجر فريد ضاحكا، إلى أن كفّ عن الضحك في المرة الثامنة عشرة.
وكان عبد السلام النابلسي من الأصدقاء المقربين لفريد الأطرش. وكانت دائرة أصدقائه في مصر تضمّ عدداً من الفنانين والصحافيين والشعراء ومن بينهم كامل الشناوي وأخوه مأمون، ومحمود لطفي، محامي فريد الخاص. وفي لبنان تضمّ روبير خياط، نجل تيودور خياط وكيل أسطوانات فريد، وكمال قعوار موزع أفلامه، ودنيز جبور سكرتيرته الخاصة والمؤتمنة على أسراره، وعبد الله الخوري نجل بشارة الخوري الشاعر وكان محاميا وشاعرا. وكان فريد يلجأ إليه لأجل تعديل كلمات في قصائد للأخطل لحنها فريد. ومنها في قصيدة "عش أنت" بيت يقول: "وحياة عينك وهي عندي مثلما القرآن عندك". طلب فريد الأطرش التغيير لأنه لن يغني "مثلما القرآن" فجعلها عبد الله الأخطل "مثلما الإيمان عندك". وقصيدة "أضنيتني بالهجر" هي في النص الأصلي "أنحلتني بالهجر" أي جعلني الهجر ناحلا. وأيضا بناء على طلب فريد تدخل قلم عبد الله الخوري فشطب "أنحلتني" وجعلها "أضنيتني" وهي الصياغة التي اعتمدها فريد.
ذات يوم سنة 1974 اتصل بي روبير خياط وقال "الليلة الساعة 8 ينتظرنا فريد الأطرش". سألته "ينتظرنا أم ينتظرك"؟ قال: "بل ينتظرك أنت. أنا سأرافقك. سأشرح لك الأمر ونحن في السيارة". وفي شقته الفخمة في اليرزة استقبلنا فريد الأطرش، وبعد الترحيب شرح لي الأمر. قال: "نستعد لتصوير فيلم جديد. وعندي شعور إنه سيكون آخر فيلم في حياتي. في معظم أفلامي مثلت أدواراً حزينة. أريد أن يتذكرني الجمهور بابتسامة". رجوت له العمر المديد فأضاف قائلاً: "السيناريو مقتبس من مسرحية فرنسية. من "فاني" لمارسيل بانيول. وأنا شاهدت في التلفزيون اللبناني المسلسل اللي إنت كتبته والمستوحى من المصدر نفسه وأعجبني (يقصد "المشوار الطويل") وطلبت من روبير يعزمك عندي. أنا مسافر إلى القاهرة بعد غد وأريدك أن تسافر معي للمشاركة في "روتشة" دوري". قلت له: "ثقتك بي تشرفني. من كتب السيناريو؟". أجابني: يوسف جوهر. قلت: "أصبحت المهمة صعبة. هو كان أستاذنا في معهد السينما وبعد تخرجي جعلني صديقه. في الأمر إحراج كبير. كلانا لن يكون مرتاحا". ووجد فريد الأطرش الحل: "تسافر معي. تحضر معنا جلسة قراءة السيناريو. أخبرني بيني وبينك بأفكارك وأنا سأجعلها تصدر عني. هكذا ينتفي الإحراج".
اكتشفت في هذه الرحلة أن فريد الأطرش يسافر من بيروت إلى القاهرة، وبالعكس، من دون أمتعة. لم يكن معه سوى بعض المجلات الفنية. عنده شقته (في روف عمارته) في القاهرة، وعنده شقة في اليرزة. وعنده كل ما يلزمه في المسكنين. لذلك يتنقل بين العاصمتين بالطائرة كأنه يتنقل بالسيارة من حيّ إلى حيّ. قال لي "حجزت لك غرفة في الشيراتون وأنا بيتي هو العمارة المجاورة تماما. جلسة القراءة الليلة".
حضر جلسة القراءة كاتب السيناريو يوسف جوهر، والمخرج بركات، ومنتج الفيلم صبحي فرحات، والشاعر أحمد شفيق كامل. في اليوم التالي نقلت إلى فريد الأطرش أفكارا طفيفة للغاية. وفي اليوم الثالث عدت إلى بيروت. كانت نفقات سفري وإقامتي على حساب فريد الأطرش مع أنه لم يكن منتج الفيلم. بل ونفحني ألفي دولار وهو مبلغ خيالي بالنسبة إليّ، وخصوصا لضآلة المهمة التي قمت بها. كان مثل كبار الزمن الجميل يحب عمله، وينفق من جيبه على دوره.
اقــرأ أيضاً
في اليوم التالي لجلسة قراءة السيناريو زرت فريد الأطرش وكانت جلسة دردشة بحضور دنيز جبور. سألته رأيه في أسمهان المطربة قال: "انسَ أنها أختي. غير خامة صوتها الذهبية وهذه عطية من الله، كان عندها إحساس مرهف جدا بالموسيقى. تفهم اللحن وتحفظه من أول مرة. وعندما تغني تحسّ بكل كلمة ونغمة. تغني بصوتها لكن من قلبها. كأن كل قطرة دم في عروقها تنفعل بما تغنّيه. أسمهان تحب الموسيقى وتحب الشعر أيضا وتحفظ مئات الأبيات". وقبل أن أطرح الأسئلة عن أسمهان الإنسانة أومأت إليّ دنيز جبور بإشارة تعني أن ألزم الصمت. ولاحقا قالت لي وهي تودعني "رحيل أسمهان المبكر أكبر جرح في قلب فريد الأطرش. ما عليك. سأعطيك مقالة عن أسمهان بقلم فريد الأطرش!". وبعد ساعة كانت قصاصة الصحيفة القديمة عندي في الفندق.
في المقال كتب فريد الأطرش: "كانت أسمهان فنانة في كل شيء حتى في أكلها وشربها وملبسها. كانت تمضي عليها فترات تميل فيها إلى العزلة فتهرب من الناس وتبالغ في الهرب منهم وتتجنب لقاءهم حتى اعتقد البعض أنها متكبرة متعجرفة. وكانت في بعض الأحيان تحب الحياة المليئة بالصخب والضوضاء (…) وكانت كريمة إلى حد الجنون". وروى أنه أعطاها ذات مرّة عشرة جنيهات لتدفع إيجار الشقة. وفوجئ بصاحب العمارة يطالب بالإيجار! ثم علم من أسمهان أنها تصرفت بالجنيهات العشرة. أعطتها لإحدى صديقات الأسرة كان زوجها الصيدلي في ضائقة مالية شديدة وقالت: "بإمكان صاحب البيت أن ينتظر لكن الصيدلي لم يكن بوسعه انتظار إشهار الإفلاس".
تشابه فريد وأسمهان في جمال الصوت، في الكرم بلا حساب، وفي حب الحياة بلا حدود.
ومنذ فترة تمّ تداول مقطع فيديو على صفحات "فيسبوك" مصوّر في حديقة قصر شونبرن في فيينا تظهر فيه أوركسترا تعزف لحن "ليالي الأنس" لفريد الأطرش أيضاً. ورافق العرض لوحة راقصة على أنغام الفالس التي تفتتح اللحن، ثم شاهدنا الرقص الشرقي بأداء راقصات باليه على أنغام المقامات العربية عندما امتزجت باللحن. أيضاً صفق الجمهور بحرارة، وأنا أمام شبكة الاتصال وضعت لايك وشير. وسعدت لأنني رأيت الفرق الأوروبية تعزف موسيقانا، ولأن فنوننا أصبحت للتصدير وليس لمجرد الاستيراد.
فريد الأطرش سليل الأسرة السورية العريقة ولد في بلدة القريّا في محافظة السويداء في جبل العرب (10 أكتوبر/تشرين الأول 1910)، انطلقت شهرته الفنية من القاهرة التي لجأ إليها وهو فتى يافع وما لبث أن اكتسب الجنسية المصرية. وأمضى معظم أوقات السنوات الأخيرة من عمره في بيروت، وفيها توفّي يوم 26 ديسمبر/كانون الأول 1974، وشُيّعت جنازته إلى مطار بيروت، ونقل جثمانه إلى القاهرة ودُفن بحسب وصيته بجوار شقيقته أسمهان.
جمع في شخصه ثلاث مواهب: المغني المطرب، والملحن المتميز، والعازف البارع على العود. وكان في المجالات الثلاثة اسماً على مسمّى: فريداً في لونه. لحّن وغنّى مجموعة من الأغاني التي أصبحت من كلاسيكيات الغناء العربي، وأكتفي هنا بذكر بعضها مثل "أول همسة" و"الربيع" و"بنادي عليك". وغنىّ الآخرون من ألحانه وأولهم شقيقته أسمهان، المطربة ذات الحنجرة الذهبية، وكانت ألحانه لها تقف على قدم المساواة مع ألحان محمد القصبجي وزكريا أحمد ورياض السنباطي، نذكر منها على سبيل المثال: "ليالي الأنس في فيينا" و"يا بدع الورد" و"أهوى" و"نويت أداري آلامي".
غنّى العديد من نجوم الطرب ألحاناً من فريد الأطرش. سأكتفي بالتذكير بواحدة: وديع الصافي (على الله تعود)، صباح (يا دلع)، شادية (يا مجربين الهوى)، وردة (روحي وروحك)، فايزة أحمد (يا حلاوتك يا جمالك)، سميرة توفيق (بيع الجمل)، نور الهدى (إن جيت للحق أنا زعلانة)، نجاح سلام (زنوبة)، محرّم فؤاد (يا واحشني ردّ علييّ)، عصام رجي (هزّي يا نواعم)، وسعاد محمد (بقى عايز تنساني). وحينما أرادت الفتاة نهاد حداد العمل في كورس الإذاعة غنّت أمام اللجنة الفاحصة لحن فريد الأطرش لأسمهان "يا ديرتي ما لي عليك لوم". لكنها عندما أصبحت فيروز الشهيرة لم تشدو بلحن له. ولم ينزعج فهي تزوجت الملحن عاصي الرحباني، كما لم يتحسر لغياب صوت عبد الوهاب عن ألحانه هو، فعبد الوهاب يلحن أغانيه بنفسه.
لكن الذي أحزنه أن صوت أم كلثوم تمنّع على ألحانه. لمرّتين جرت محاولة اللقاء الفني بينهما. في المرة الأولى لحن قصيدة الأخطل الصغير "وردة من دمنا" وهي عن فلسطين. لم تغنّها أم كلثوم وتذرعت بأنها أغنية وطنية تذاع في المناسبات فقط وهي بحاجة لأغنية عاطفية تذاع باستمرار. ولاحت الفرصة عندما لحن فريد الأطرش المذهب والمقطعين الأولين من "كلمة عتاب" التي نظمها أحمد شفيق كامل، وهو مؤلف "إنت عمري" وصديق الطرفين. ولم يكتب للمحاولة الثانية النجاح برغم أن اللحن كان أقرب إلى لون أم كلثوم من لحن قصيدة الأخطل. سجّل فريد اللحن على شريط يرافقه عوده، ولاحقا أكمل بليغ حمدي تلحين بقية الأغنية وأنشدتها وردة.
على أن فريد الأطرش فرض اسمه كملحن ومطرب في دنيا النغم، وكأحد أمراء العزف على العود. وكان تعلّم العزف عليها على يد فريد غصن، اللبناني المقيم في القاهرة آنذاك، وعلى يد الملحن الكبير رياض السنباطي. وكان فريد الأطرش يفتتح حفلاته العامة بوصلة عزف على العود ينتظرها الجمهور بشغف وتعتبر جزءاً لا يتجزأ من برنامج الحفل.
وبرغم نجاحه الباهر في الموسيقى لم يصبح فريد الأطرش ذات يوم ممثلاً موهوباً. شأنه شأن الموسيقار محمد عبد الوهاب. لكن وجوده في دور البطولة كان ضمانة أكيدة للنجاح التجاري. أفلام فريد الأطرش حققت إيرادات عالية جداً في عموم العالم العربي، واحتلت الصدارة دائما في بلدان المغرب العربي. بلغ مجموع أفلامه 31 فيلماً أولها "انتصار الشباب" وقاسمته أخته أسمهان البطولة سنة 1941 وهو من إخراج أحمد بدرخان، وآخرها "نغم في حياتي" سنة 1974 وهو من إخراج هنري بركات، أكثر المخرجين تعاوناً مع فريد الأطرش إذ أخرج 11 فيلماً، وحلّ أحمد بدرخان في المرتبة الثانية مخرجاً 9 أفلام. وكان فريد الأطرش قد صوّر أفلامه الثلاثة الأخيرة في لبنان: نغم في حياتي، وقبله "زمان يا حب" 1973 من إخراج عاطف سالم وبطولة زبيدة ثروت، وقبله "الحب الكبير" 1968 إخراج بركات والبطلة أمام فريد هي فاتن حمامة. وفي هذا الفيلم تعرفت على فريد الأطرش عندما اشتغلت مساعدا للمخرج.
كان تصوير المشاهد التي يشارك فيها فريد الأطرش يجري بعد الظهر لأنه يستيقظ في هذا الوقت، فمن عادة فريد السهر طول الليل وهو يخلد إلى النوم في أولى ساعات الصباح. ومن ذكرياتي في هذا الفيلم لقطة أعيد تصويرها 18 مرة. في اللقطة يشهر عبد السلام النابلسي المسدس في وجه فريد الأطرش. والمشهد جدي وليس كوميدياً. لكن في كل مرة شهر فيها النابلسي مسدسه انفجر فريد ضاحكا، إلى أن كفّ عن الضحك في المرة الثامنة عشرة.
وكان عبد السلام النابلسي من الأصدقاء المقربين لفريد الأطرش. وكانت دائرة أصدقائه في مصر تضمّ عدداً من الفنانين والصحافيين والشعراء ومن بينهم كامل الشناوي وأخوه مأمون، ومحمود لطفي، محامي فريد الخاص. وفي لبنان تضمّ روبير خياط، نجل تيودور خياط وكيل أسطوانات فريد، وكمال قعوار موزع أفلامه، ودنيز جبور سكرتيرته الخاصة والمؤتمنة على أسراره، وعبد الله الخوري نجل بشارة الخوري الشاعر وكان محاميا وشاعرا. وكان فريد يلجأ إليه لأجل تعديل كلمات في قصائد للأخطل لحنها فريد. ومنها في قصيدة "عش أنت" بيت يقول: "وحياة عينك وهي عندي مثلما القرآن عندك". طلب فريد الأطرش التغيير لأنه لن يغني "مثلما القرآن" فجعلها عبد الله الأخطل "مثلما الإيمان عندك". وقصيدة "أضنيتني بالهجر" هي في النص الأصلي "أنحلتني بالهجر" أي جعلني الهجر ناحلا. وأيضا بناء على طلب فريد تدخل قلم عبد الله الخوري فشطب "أنحلتني" وجعلها "أضنيتني" وهي الصياغة التي اعتمدها فريد.
ذات يوم سنة 1974 اتصل بي روبير خياط وقال "الليلة الساعة 8 ينتظرنا فريد الأطرش". سألته "ينتظرنا أم ينتظرك"؟ قال: "بل ينتظرك أنت. أنا سأرافقك. سأشرح لك الأمر ونحن في السيارة". وفي شقته الفخمة في اليرزة استقبلنا فريد الأطرش، وبعد الترحيب شرح لي الأمر. قال: "نستعد لتصوير فيلم جديد. وعندي شعور إنه سيكون آخر فيلم في حياتي. في معظم أفلامي مثلت أدواراً حزينة. أريد أن يتذكرني الجمهور بابتسامة". رجوت له العمر المديد فأضاف قائلاً: "السيناريو مقتبس من مسرحية فرنسية. من "فاني" لمارسيل بانيول. وأنا شاهدت في التلفزيون اللبناني المسلسل اللي إنت كتبته والمستوحى من المصدر نفسه وأعجبني (يقصد "المشوار الطويل") وطلبت من روبير يعزمك عندي. أنا مسافر إلى القاهرة بعد غد وأريدك أن تسافر معي للمشاركة في "روتشة" دوري". قلت له: "ثقتك بي تشرفني. من كتب السيناريو؟". أجابني: يوسف جوهر. قلت: "أصبحت المهمة صعبة. هو كان أستاذنا في معهد السينما وبعد تخرجي جعلني صديقه. في الأمر إحراج كبير. كلانا لن يكون مرتاحا". ووجد فريد الأطرش الحل: "تسافر معي. تحضر معنا جلسة قراءة السيناريو. أخبرني بيني وبينك بأفكارك وأنا سأجعلها تصدر عني. هكذا ينتفي الإحراج".
اكتشفت في هذه الرحلة أن فريد الأطرش يسافر من بيروت إلى القاهرة، وبالعكس، من دون أمتعة. لم يكن معه سوى بعض المجلات الفنية. عنده شقته (في روف عمارته) في القاهرة، وعنده شقة في اليرزة. وعنده كل ما يلزمه في المسكنين. لذلك يتنقل بين العاصمتين بالطائرة كأنه يتنقل بالسيارة من حيّ إلى حيّ. قال لي "حجزت لك غرفة في الشيراتون وأنا بيتي هو العمارة المجاورة تماما. جلسة القراءة الليلة".
حضر جلسة القراءة كاتب السيناريو يوسف جوهر، والمخرج بركات، ومنتج الفيلم صبحي فرحات، والشاعر أحمد شفيق كامل. في اليوم التالي نقلت إلى فريد الأطرش أفكارا طفيفة للغاية. وفي اليوم الثالث عدت إلى بيروت. كانت نفقات سفري وإقامتي على حساب فريد الأطرش مع أنه لم يكن منتج الفيلم. بل ونفحني ألفي دولار وهو مبلغ خيالي بالنسبة إليّ، وخصوصا لضآلة المهمة التي قمت بها. كان مثل كبار الزمن الجميل يحب عمله، وينفق من جيبه على دوره.
في اليوم التالي لجلسة قراءة السيناريو زرت فريد الأطرش وكانت جلسة دردشة بحضور دنيز جبور. سألته رأيه في أسمهان المطربة قال: "انسَ أنها أختي. غير خامة صوتها الذهبية وهذه عطية من الله، كان عندها إحساس مرهف جدا بالموسيقى. تفهم اللحن وتحفظه من أول مرة. وعندما تغني تحسّ بكل كلمة ونغمة. تغني بصوتها لكن من قلبها. كأن كل قطرة دم في عروقها تنفعل بما تغنّيه. أسمهان تحب الموسيقى وتحب الشعر أيضا وتحفظ مئات الأبيات". وقبل أن أطرح الأسئلة عن أسمهان الإنسانة أومأت إليّ دنيز جبور بإشارة تعني أن ألزم الصمت. ولاحقا قالت لي وهي تودعني "رحيل أسمهان المبكر أكبر جرح في قلب فريد الأطرش. ما عليك. سأعطيك مقالة عن أسمهان بقلم فريد الأطرش!". وبعد ساعة كانت قصاصة الصحيفة القديمة عندي في الفندق.
في المقال كتب فريد الأطرش: "كانت أسمهان فنانة في كل شيء حتى في أكلها وشربها وملبسها. كانت تمضي عليها فترات تميل فيها إلى العزلة فتهرب من الناس وتبالغ في الهرب منهم وتتجنب لقاءهم حتى اعتقد البعض أنها متكبرة متعجرفة. وكانت في بعض الأحيان تحب الحياة المليئة بالصخب والضوضاء (…) وكانت كريمة إلى حد الجنون". وروى أنه أعطاها ذات مرّة عشرة جنيهات لتدفع إيجار الشقة. وفوجئ بصاحب العمارة يطالب بالإيجار! ثم علم من أسمهان أنها تصرفت بالجنيهات العشرة. أعطتها لإحدى صديقات الأسرة كان زوجها الصيدلي في ضائقة مالية شديدة وقالت: "بإمكان صاحب البيت أن ينتظر لكن الصيدلي لم يكن بوسعه انتظار إشهار الإفلاس".
تشابه فريد وأسمهان في جمال الصوت، في الكرم بلا حساب، وفي حب الحياة بلا حدود.