دفاتر فارس يواكيم: إسماعيل يس... الهزلي المصري الذي ألغى اسمه عناوين الأفلام

23 سبتمبر 2019
إسماعيل يس من فيلم آخر كذبة (فيسبوك)
+ الخط -
بين المسرح والإذاعة والموسيقى، قضى فارس يواكيم (1945، مصر)، عقوداً من حياته، مواكباً ومؤرّخاً ومشاركاً في أبرز محطات المشهد الفني العربي في القرن الماضي، وشاهداً على التحوّلات في عالم الفنّ.
تنشر "العربي الجديد" كل يوم اثنين مذكرات يواكيم مع أبرز الفنانين والمنتجين والمخرجين العرب، مستعيدة محطات شخصية ولقاءاته مع هؤلاء في القاهرة وبيروت وباريس وغيرها من العواصم.


لم يحدث في تاريخ السينما المصرية والعربية، بل والعالمية، أن كان اسم الممثل النجم هو عنوان الفيلم، باستثناء حالة الممثل الكوميدي المصري إسماعيل يس. ولا يتعلق الأمر بفيلم أو فيلمين، بل بخمسة عشر فيلماً. عناوينها جميعاً اسم البطل مضافاً إليه المكان. من "إسماعيل يس في بيت الأشباح" (1951) إلى "إسماعيل يس في السجن" (1961). وما بين بيت الأشباح والسجن أفلام إسماعيل يس في: الجيش، البوليس، الأسطول، مستشفى المجانين، جنينة الحيوانات، متحف الشمع، بوليس حربي، في الطيران، في دمشق. إضافة إلى: مغامرات إسماعيل يس، وعفريتة إسماعيل يس. وأيضا: إسماعيل يس طرزان، وإسماعيل يس للبيع، وإسماعيل يس يقابل ريا وسكينة. وكل هذه الأفلام في عقد الخمسينيات من القرن الماضي، وهي سنوات العصر الذهبي في مسيرته الفنية.

إسماعيل يس المولود في مدينة السويس في 15 سبتمبر/أيلول 1912، وفد إلى القاهرة أول مرة في الثلاثينيات. واشتغل كمونولوجست يغني ويلقي النكات في الأعراس والموالد الشعبية، إلى أن اكتشفه المؤلف أبو السعود الإبياري الذي كان آنذاك يكتب اسكتشات ضاحكة تقدم في كازينو بديعة مصابني. كان ذلك في 1935. وكان جمهور كازينو بديعة غفيراً فبدأ الفكاهي إسماعيل يس يكتسب شهرة. لفت نظر المخرج فؤاد الجزايرلي فأسند إليه دوراً في فيلم "خلف الحبايب" (1939).

وظل يشارك في الأفلام بأدوار صغيرة ويقدم في الليل فقراته الهزلية في كازينو بديعة حتى عام 1945، حيث تفرّغ للسينما تماما بعدما كان قد اشترك بدور رئيسي في فيلم "القلب له واحد" من بطولة صباح وأنور وجدي (إخراج بركات). وما لبث أن أصبح الاسم الثالث في أفيشات الأفلام (الملصقات) بعد اسمي البطلة والبطل، خصوصاً إلى جانب مشاهير الطرب: فريد الأطرش، وليلى مراد، وصباح، ومحمد فوزي، وشادية.

بلغ مجموع الأفلام التي شارك فيها إسماعيل يس 212 فيلماً. بدأ نجمه يسطع وشعبيته تتصاعد منذ سنة 1947 وفيها شارك في 15 فيلماً.. وظل في كل سنة يمثل أفلاماً في حدود هذا الرقم إلى سنة 1954 حيث أنهى العام وقد تولى بطولة 18 فيلماً. وهو أخبرني أنه كان يهرع من استوديو إلى آخر حين بلغ به الأمر أن يشارك في تصوير خمسة أفلام في وقت واحد! وبعد هذه السنة بدأ العدّ التنازلي. وأصبح يصور خمسة أفلام في السنة كلها! وأخذ الرقم السنوي يتدحرج من خمسة عام 1960 إلى أربعة في العام التالي، فثلاثة في العام الذي يليه، إلى فيلم واحد فقط سنة 1963 إلى لا شيء في السنة التالية، ثم شارك بفيلم يتيم سنة 1965.

يوم تربعه على عرش نجوم شباك التذاكر، وفي سنته الذهبية 1954 أسس "مسرح إسماعيل يس". مسرح يومي على غرار مسرح الريحاني ومسرح يوسف وهبي. وكان الأول يضمّ حشداً من نجوم الكوميديا، وظهر إسماعيل يس ليكون المنافس. على غرار فرقة الريحاني التي نشأت من تعاون بين النجم الكبير نجيب الريحاني والكاتب القدير بديع خيري، كان مسرح إسماعيل يس ثمرة تعاون بين النجم الشعبي والكاتب المحترف صديق العمر ومكتشفه أبو السعود الإبياري. وعلى غرار مسرح الريحاني أيضاً، كان لفرقة إسماعيل يس مسرحان، واحد في القاهرة والثاني صيفي في الإسكندرية. بل وكلاهما في الحيّ ذاته! في القاهرة في "وسط البلد": مسرح الريحاني في شارع عماد الدين ومسرح إسماعيل يس في شارع طلعت حرب مقابل سينما مترو في القاعة التي كانت سينما ميامي. وفي الإسكندرية كان موقع المسرحين على كورنيش البحر في حي كامب شيزار، وبينهما بضع مئات من الأمتار.

حمل المسرح اسمه، كما كل الأفلام التي ذكرناها. لكن كان للمسرحيات عناوين. وكانت من كتابة أبو السعود الإبياري، مقتبسات من مسرح البولفار الفرنسي. وكان الإبياري شريكه في الإنتاج أيضاً. ولكي يقوى على منافسة الفرق الموجودة، ولا ننسى فرق القطاع العام وخصوصاً المسرح القومي، جمع إسماعيل في فرقته كوكبة من الأسماء. من نجوم السينما: هند رستم، وشكري سرحان، وتحية كاريوكا، ومحمود المليجي. والممثلة المسرحية القديرة سناء جميل، ونجوم الكوميديا: زينات صدقي، وعبد الفتاح القصري، وعبد المنعم إبراهيم، ومحمد كمال المصري (شرفنطح). امتلأت شوارع القاهرة والصحف بالإعلانات عن الفرقة الجديدة التي ستبدأ عروضها في نوفمبر/ تشرين الثاني 1954 وعن مسرحية الافتتاح "حبيبي كوكو" والبطل صاحب الاسم الرنّان: إسماعيل يس.

نجحت فرقة إسماعيل يس وغصّت القاعة بالحضور كل ليلة. وتولى إخراج المسرحيات مخرجون مشهورون وخصوصاً في الكوميديات: السيد بدير، وعبد المنعم مدبولي، ونور الدمرداش. لم تكمل هند رستم، وشكري سرحان المشوار. وحلّ محلهما نجما الكوميديا استفان روستي، وحسن فايق، وقد اجتذبهما إسماعيل يس من فرقة الريحاني. ولاحقاً تركت سناء جميل، وعبد المنعم إبراهيم الفرقة وانضمّا إلى المسرح القومي.

استمرت الفرقة تقدم عروضها في القاهرة والإسكندرية مع إقبال جماهيري، بدأ يتناقص، كما في السينما، حتى اضطر إسماعيل يس وأبو السعود الإبياري إلى حلّ الفرقة وإغلاق المسرح الذي دام اثني عشر عاماً. وعادت القاعة تدعى سينما ميامي، ورُفع اسم إسماعيل يس من الواجهة. ودخل في معركة مع مصلحة الضرائب التي طالبته بدفع المبالغ المستحقة والمتراكمة، وهو اعتبرها مضخمة وتعسفية. لكن مصلحة الضرائب دائما أقوى، فحجزت على العمارة التي بناها إسماعيل يس بعرق نجاحه لتسديد الديون لصالح مصلحة الضرائب. وهنا يرتسم السؤال: كيف يضطر مسرح ظل ناجحاً لفترة أن يغلق أبوابه؟ الجواب: ارتفاع التكاليف. الفرقة ضمت نجوماً يتقاضون أجوراً مرتفعة، بلغت أحياناً ضعف ما تدفعه المسارح الأخرى، وأكثر. وقاعة المسرح بإيجار مرتفع أيضاً. تزامن ذلك مع انخفاض الإيرادات في السنوات الأخيرة، بسبب هبوط شعبية إسماعيل يس تدريجياً.

وكيف هبطت أسهم نجم كان محلقاً إلى الذرى؟ كما في السينما كذلك في المسرح تجمّد أداء إسماعيل يس في نمط أصبح مستهلكاً. لم يتطور ولم يتجدّد. في حين تميّز أقرانه بابتكار شخصيات هزلية تعتمد على أداء الممثل، فيما ظل إسماعيل يس معتمداً على نكات المؤلف فقط. صمد عبد السلام النابلسي، وحسن فائق، واستفان روستي، وعبد الفتاح القصري وتراجعت أسهم إسماعيل يس في بورصة الكوميديا. وبدأ يعاني من داء النقرس ويكثر من الجلوس في مسرحياته، وقد أثّر ذلك سلبياً في إيقاع الحركة على الخشبة.

ثم شجّع عبد القادر حاتم وزير الإعلام ما عرف بمسرح التلفزيون. تأسست في مطلع الستينيات فرق مختلفة تقدم مسرحيات يتم تصويرها في ختام العروض لتعرض لاحقاً في التلفزيون. ومنها فرقة مختصة بالعروض الكوميدية. وفي خطٍ موازٍ أنشأت وزارة الثقافة فرقة "المسرح الكوميدي". وظهرت أسماء نجوم استقطبت الغالبية العظمى من المتفرجين وعلى رأسهم فؤاد المهندس، وحوله شويكار وعبد المنعم مدبولي وحسن مصطفى (الذي كان سابقا في فرقة إسماعيل يس) ومحمد عوض، ومحمد رضا، وأمين الهنيدي، ولاحقا الوجه الجديد الصاعد عادل إمام.

وكانت تحية كاريوكا غادرت فرقة إسماعيل يس سنة 1961 وأسست فرقتها الخاصة مع زوجها الفنان فايز حلاوة، وقدمت مسرحيات كوميدية شعبية تناولت مواضيع اجتماعية منها "روبايكيا"، و"شفيقة القبطية"، و"يحيا الوفد" وجد الجمهور فيها انعكاسا لهمومه ومشاكل زمانه فيما ظلت هزليات إسماعيل يس من مسرح البولفار خالية من أي مضمون اجتماعي. والطريف أن تحية كاريوكا قدمت مسرحياتها لاحقاً في "مسرح ميامي".

كانت سنة 1954 سنة ذهبية في حياة إسماعيل يس المهنية، وكانت سنة 1966 سنة رمادية قاتمة. في الأولى بلغ الذروة في السينما وافتتح مسرحه، وفي الثانية نسيه منتجو الأفلام وأغلق مسرحه، وحطّمته الضرائب. فهاجر إلى لبنان لعل الحظ يبتسم له في بيروت.

خلال سنوات الإقامة في العاصمة اللبنانية تعددت اللقاءات بيني وبينه. ساهم فيها وجود ابنه الوحيد يس معه. وكنت أعرف يس من القاهرة، هو الآخر درس في معهد السينما (لكنه لم يكمل الدراسة). فكّر يس إسماعيل يس بعمل مشروع مسرحي في بيروت، يقوم والده ببطولته، مع فرقة لبنانية مطعمة ببعض الممثلين المصريين المقيمين في بيروت كحسن المليجي، وأنور زكي، وسيد المغربي. يخرج العمل يس إسماعيل يس وأتولى أنا كتابة النص والحوار باللهجتين المصرية واللبنانية. عكفت على اقتباس مسرحية من البولفار الفرنسي "دوران ودوران" Durand et Durand للمؤلفين M.Ordonneu, A.Valabregue…. وبعدما انتهيت من الاقتباس حملت أوراقي والتقيت إسماعيل يس وابنه في مقهى بالروشة. ما إن قرأت خمس صفحات حتى صاح: "ستوب! أنا قدمت الرواية دي في مسرحي. أعدّها أبو السعود الإبياري واسمها "كل الرجاله كده". ومثلها معي تحية كاريوكا ومحمود المليجي". وأقترح أن نعيد تقديم نص الإبياري على أن ألبنن أنا الحوارات التي سيؤديها اللبنانيون. ولم أكن متحمساً للعمل كمجرد مترجم لنصف الحوار.

لم يبصر المشروع النور، ولم يحدث لقاء عمل بيننا، لكن تكررت الزيارات. كان لطيفاً متواضعاً وفيّاً لا ينسى أصحاب الفضل، يتحسر على مجد الماضي المنحسر. عمل في السينما اللبنانية بمعدل فيلم واحد في السنة. وعاد إلى دور "السنّيد" كما في أفلامه الأولى. بدأ عام 1967 بفيلم "كرم الهوى" بإخراج محمد سلمان وظهر اسمه بعد صباح وعبد السلام النابلسي. وفي العام التالي فيلم "فرسان الغرام" من إخراج ألبير نجيب وبطولة فهد بلان، ومريم فخر الدين. ثم أسند إليه المخرج فاروق عجرمة دورين في فيلمين: الأول "طريق الخطايا" إنتاج مشترك مع إيران (1969) وبطولة المغنية اللبنانية رنده والنجمة الإيرانية فريبا خاتمي. ثم "عصابة النساء" إنتاج مشترك مع تركيا، وحلّ اسم إسماعيل يس بعد أسماء صباح وطروب والنجوم الأتراك. ثم لم يستدعه مخرج أو منتج.

في 1971، قام إسماعيل يس ببطولة مسلسل تلفزيوني لبناني كتبه محمود نصير وأخرجه نقولا أبو سمح، واشتركت فيه سميرة بارودي ومارسيل مارينا ("عجيب أفندي"). زرته أثناء التصوير ووجدته يعاني من علّة عدم حفظ الحوار المزمنة. كان في مسرحه يتكل على خدمات الملقّن وكان الجمهور يسمع صوت الملقن من مقصورته (الكمبوشة) فتفقد بعض النكات حيويتها. في تلفزيون لبنان كان هناك من ينام خلف الصوفا يهمس له بحواراته مذكّرا، وكان المصورون يعلقون على الكاميرا أوراقا كبيرة كُتب فيها الحوار بخط مقروء. وقفل عائداً إلى القاهرة. اشترك في مسلسل تلفزيوني عنوانه (وليس أجره) "نص مليون جنيه". ثم في فيلم "الرغبة والضياع" من إخراج أحمد ضياء الدين وبطولة هند رستم، ورشدي أباظة، ونور الشريف. ولم يكمل العمل لأنه توفي يوم 24 مايو/أيار 1972 وقد داهمته أزمة قلبية. وكنتُ قبل أسبوعين مشيت بجواره مشيّعين المخرج فطين عبد الوهاب وكان إسماعيل يس يبكي بحرقة صادقة. وهو مثله لم يبلغ عمره الستين، وكذلك ولده يس الذي توفي سنة 2008 بعد معاناة من داء السرطان.
دلالات
المساهمون