دروس من كفاح جنوب أفريقيا

28 يوليو 2018
+ الخط -
على الرغم من عدالة قضية شعب جنوب أفريقيا في كفاحه ضد الفصل العنصري، لم يكن السود جميعهم متحدين ضد ظلم الرجل الأبيض؛ بل كان منهم من يتعاون مع البيض في قمع بني جنسه، وبعضهم يرى أن التمرد على هذا الوضع يحرمهم الأمن ولقمة العيش، وبعضهم مؤمن بنظرية تفوّق الجنس الأبيض؛ بل اختلف السود المكافحون ضد الفصل العنصري فيما بينهم حدّ الاقتتال بالسلاح، واعتزال بعضهم بعضا في السجون.
وعلى الرغم من عدالة القضية، كانت انجلترا أكبر داعم للكيان العنصري الذي زرعته في جنوب أفريقيا، وتبعتها أوروبا وأميركا في دعم الكيان العنصري.
بعد أن رست أول سفينة أوروبية هولندية عام 1652 على الساحل الجنوبي للبلاد، بدأ استيطان الرجل الأبيض، وفي منتصف القرن العشرين، وصل عدد السكان البيض إلى حوالي 20% من مجموع السكان، وكانوا يسيطرون على 87% من مجموع الأراضي.
كان أول نشاط سياسي منظم قاده السود ضد الفصل العنصري من خلال تأسيس حزب المؤتمر الوطني عام 1912، وظل هذا الحزب ينتهج السلمية في كفاحه، في الوقت الذي تزداد فيه قسوة نظام الفصل العنصري. وبعد خمسين عاما من النضال السلمي، ومع انسداد أي أفق للوصول إلى نتيجة، بدأ نيلسون مانديلا الذي كان عضوا في حزب المؤتمر إلى طرح فكرة استخدام العنف، وفي عام 1961 تم تكليف مانديلا برئاسة منظمة عسكرية منفصلة عن الحزب، وتم تسميتها "رمح الأمة".
وبحسب ما ورد في مذكرات مانديلا، تم تكليف المنظمة بتوجيه ضربات عنيفة ضد الدولة، مع تحاشي الإضرار بالأفراد. وعليه، قام بأعمال التخريب ضد المنشآت العسكرية ومحطات توليد الكهرباء وخطوط الهاتف وغيرها، بهدف عرقلة فاعلية الدولة العسكرية وجرها إلى المفاوضات.
عام 1962 تم القبض على مانديلا وأودع السجن، واستمرت أعمال التخريب بدون انقطاع، مع انخفاض وتيرتها بحكم الرد العنيف من سلطة الفصل العنصري.
عام 1976 حدثت انتفاضة كبيرة، كشفت عن جيل ثوري جديد، بعضهم تم اعتقاله في جزيرة روبن مع مانديلا. ويقول عنهم مانديلا: "رأينا جيلا جديدا من الشباب الثوري لم يتقبلوا الظروف التي فرضها علينا السجانون، وتمردوا عليها، وتجاهلوا دعوتنا إلى النظام؛ فقد كانوا يروننا معتدلين، ولم يكن ذلك مدعاة لي للسرور بعد سنوات طويلة من وصفي بالثورية والراديكالية".
في الثماني سنوات بين عامي 1976-1984، وفي أثناءوجود مانديلا في السجن، تزايدت وتيرة المقاومة المسلحة والتمرد الشعبي، ما أفقد السلطة العنصرية قدرتها على حفظ الأمن، ما نشأ عنه الإضرار بالاستثمارات الغربية، فسحبت معظم الدول الغربية دعمها له. ومع نجاح حركة الحقوق المدنية في استعادة بعض حقوق السود في أميركا، تبدل موقفها الداعم للكيان العنصري، وبقيت بريطانيا وحيدة في دعمها النظام حتى لحظاته الأخيرة. هذا بالإضافة إلى وضع إقليمي داخل أفريقيا، يموج بحركات التحرر من الاحتلال الأوروبي.
وتحت كل تلك العوامل الداخلية والدولية والإقليمية، أدرك النظام أنه لا مخرج إلا بالتنازل والتفاوض، ففي عام 1984 بدأت السلطة المفاوضات مع مانديلا، على قاعدة نبذه العنف، فأرسل ردا مكتوباً قرأته ابنته على الجماهير، وكانت رسالته تحمل رفضاً للانصياع لأي شروط، كما أكدت على أنهم لم يسلكوا طريق العنف، إلا بعد أن سُدَت أمامهم طرق المقاومة. وأعلن أنه على الرغم من عدم إدانته العنف، فإن العنف لن يُوجِد حلاً للوضع في جنوب أفريقيا.
عام 1988 أقر الكونغرس الأميركي قانون مقاطعة شاملة، وفي 2 فبراير/ شباط عام 1990 أعلن رئيس جنوب أفريقيا، دو كليرك، إلغاء جميع مظاهر الفصل العنصري والإفراج عن السجناء السياسيين.
تغيرت الحياة في جنوب أفريقيا في ليلة واحدة، وفق وصف مانديلا. وبعد إطلاق سراحه، أرسل رسائل تطمين إلى البيض، وبَيَّنَ أهمية وجود البيض في أي نظام جديد، وبدأت مسيرة إعادة بناء الدولة، وأثبت السود المتهمون بالتخلف والإرهاب أنهم أكثر تحضراً من البيض، أدعياء التفوق الجنسي، وقادوا البلد بقدر كبير من التسامح والعقلانية، وما زالت مسيرة الكفاح مستمرة، ودروسها قائمة لمن أراد أن يتعلم.
C89F4B84-7610-4788-B355-1A7EBEB820CB
C89F4B84-7610-4788-B355-1A7EBEB820CB
محمود صقر
كاتب مصري.
محمود صقر