الجنة الفرنسية للمرأة العصرية

17 سبتمبر 2019
+ الخط -
امرأة خمسينية تسير في الشارع، وتتعثر في مشيتها من ثقل حقيبتي سفر تجرّهما في أحد شوارع مدينة سياحية فرنسية، عرضت عليها المساعدة. وبينما أسير معها نحو وجهتها، كان يسير أمامنا بخفة رجل يجر حقيبة صغيرة، اكتشفت بعد وصولي إلى وجهتها أنه زوجها، وعرفتْني عليه بكل فخر وابتسامتها تعلو وجهها، وهي لا تشعر إطلاقاً بما أشعر به من غيظ تجاه زوجها الذي تركها تجر حقائبها الثقيلة مكتفياً بجر حقيبته هو، ثم تبادلنا التحية وانصرفت. 
في جلسة سمر في المساء، ذكرت الموقف لأصدقائي، فتقاطرت الروايات المشابهة، ومنها رواية نقلاً عن مهاجر عربي يعمل في توصيل الطلبات إلى المنازل، يلتزم بتوصيل الطلبات إلى باب الشقة، ويستلمها أهل البيت. يقول: في العادة النساء هن من يستقبلن الطلبات، بينما أزواجهن أو رفقاؤهن متكئون على الأرائك. ومرة كان يوصل كرتونة مياه كبيرة وثقيلة، وفتحت الباب امرأة حامل في شهورها الأخيرة، أشفق صاحبنا عليها حين همّت بحمل الكرتونة، فعرض عليها مساعدتها في حمل الكرتونة إلى داخل المطبخ، وفي طريقه للمطبخ حيّاه زوجها أو رفيقها المتكئ على الأريكة وكأن الأمر لا يعنيه، شكرت المرأة صاحبنا وسألته سؤالا ذا دلالة: أنت عربي أم تركي؟
المساواة بين الرجل والمرأة في الغرب عقد اجتماعي يوزع أعباء الحياة بالتساوي، وبالورقة والقلم كل منهما يتحمل مسؤولية نفسه ومتطلباته، وإذا دخلا المطعم يسحب الرجل (الجنتلمان) الكرسي لرفيقته، بكل أدب وذوق، حتى إذا انتهيا من طعامهما قام كل منهما بدفع فاتورة ما أكله.
والجنسان متساويان تماما أمام القانون، ولهما حقوق متساوية، ولكن في سوق العمل يختلف الراتب باختلاف الجنس لصالح الرجل مع التساوي في المؤهلات.
وإذا انتقلنا إلى الطرف الثاني من الكرة الأرضية في الشرق الأقصى، حيث ما يسميه علماء الاجتماع المجتمع الأمومي، في رحلتي إلى كمبوديا وفي طريقي من العاصمة بنوم بنه إلى المدينة التاريخية سيم ريب، كان بصحبتي شاب جامعي مسلم حديث التخرج أخبرني بأنه خاطب فسألته: متي الزواج؟ فأجاب: حين تأذن والدة العروس! فقلت له: وهل والدها متوفى؟ قال: لا، الكلمة في هذه الأمور للأم لا للأب. من عاداتنا المستقرة هنا أن الزوج ينتقل إلى العيش في بيت أم الزوجة (فالبيت هو مِلك الأم لا الأب)، وأم الزوجة هي التي تتولى إدارة شؤون البيت‎ كاملة.
سألته: وما دور زوج البنت في عائلته الجديدة؟ قال: الزوج يعمل في خدمة أم الزوجة في الزراعة أو الصيد أو قطع الأخشاب أو أي وظيفة، وإن كان موظفاً يقدم لها راتبه كاملاً للمساهمة في مصروفات العائلة، ويأخذ مصروفه من والدة الزوجة. ولا يستطيع تغيير مكان عمله أو وظيفته من دون إذن من زوجته وأمها، وما زالت في بلادنا (كمبوديا) عائلات ينتقل فيها الإرث من الأمهات إلى أبنائهن الإناث دون الذكور (انتهى كلام صديقنا الكمبودي).
طافت بي تلك الأفكار، وأنا تحت سطوة استفزاز متابعتي المستمرة لأجهزة الإعلام الغربية، والفرنسية منها خصوصا، وما تنضح به من استعلاء الغرب بثقافته على سائر الثقافات، سيما ثقافتنا العربية والإسلامية، وخصوصا في موضوع المرأة على اعتبارهم نموذجاً للمساواة بين الجنسين في مقابل مجتمعاتنا الذكورية التي تمتهن المرأة وتجعلها مجرد أداة استمتاع.
عقدة الغرب أنه يتوهم أن تفوقه الحضاري في هذه الحقبة التي نعيشها يعطيه الحق في فرض نمطه الثقافي على العالم، وعلى العالم أن يستسلم للعولمة الثقافية، كما رضي بالعولمة الحضارية، وهذا هو الغرور والحمق بعينه، فجمال هذا الكون في تنوعه وهكذا خلقه وأراده خالق الكون.
وليس معنى هذا أننا، نحن العرب والمسلمين، واحة العلاقة المثالية بين الرجل والمرأة، فنحن في عصرنا هذا تفصلنا مسافات بعيدة عن إعلاء القيم الإنسانية بصفة عامة. ولكن لنا ديننا وقيمنا وثقافتنا الأصيلة التي نرتكز عليها في تطوير مجتمعاتنا نحو الأفضل إنسانياً، من دون تقليد شرق أو غرب، أو السعي نحو طمس هوية غيرنا من شرق وغرب.
C89F4B84-7610-4788-B355-1A7EBEB820CB
C89F4B84-7610-4788-B355-1A7EBEB820CB
محمود صقر
كاتب مصري.
محمود صقر