درس من رومانيا

11 فبراير 2015

مشهد من بوخارست (Getty)

+ الخط -

دار بيني وبين صديق، عاش في رومانيا، في أثناء دراسته الطب، هذا الحوار القصير، والذي افتتحه بهذه القصة:

عملت في أثناء دراستي في بوخارست في مجال الدعوة الإسلامية، وركّزنا جهودنا على الأقلية المسلمة من سكان البلاد الأصليين، حيث إن نسبة كبيرة منهم كانوا لا يعرفون من الإسلام إلا اسمه. وتمكنّا من ابتعاث مجموعات منهم لدراسة العلوم الإسلامية، في بعض البلاد العربية، ونجحنا بشكل كبير، حيث عاد أغلبهم متفقهين في الدين، وعملوا على نشره في بلادهم، على وعي وبصيرة. لكنّ أعضاء إحدى المجموعات التي ابتعثت إلى دولة عربية وقعت في براثن مجموعات متشددة، وتأثرت بها، وعادت إلينا بفكر مشوّش، ووجوه مكفهرة عابسة.

وكانت الطامة الكبرى أن أول مهمة نفذتها هذه المجموعة عقب عودتها إلى العاصمة الرومانية، أنها اعتبرتنا كفاراً، لأننا نحمل "فكراً إسلامياً وسطياً متسامحاً".

كفرونا.. هكذا ببساطة، على الرغم من كل ما عملناه من أجلهم، ودورنا في توعيتهم، وإرسالهم لتعلم علوم الدين. رأينا فيهم ما كنا نقرأه قديما، عن جماعة الخوارج التي ظهرت، في نهاية عهد الخليفة عثمان بن عفان. لكن، كانت المفاجأة أن أفراد تلك المجموعة سرعان ما انفلتوا من عقال تزمّتهم، بعد شهور فقط، فتركوا الدين والدعوة، وعادوا إلى حياة "الخلاعة والفساد والانحلال".

وأذكر أنني التقيت أحد أعضاء هذه المجموعة، وهالني تغيّر حاله، والملابس "الخليعة" التي كان يرتديها، وقَصة شعره "المقززة"، والتقت عيني بعينه، فما كان منه إلا أن غض بصره بسرعة، وأطرق بوجهه نحو الأرض، قبل أن يتوارى عن الأنظار خجلا.

سألت صديقي: وما تفسيرك لظاهرة الغلو والتطرف؟

أجاب: من تجربتي في مجال الدعوة، أرى أن هناك سببين رئيسييْن لمشكلة الغلو في الدين، الأول هو الفكر المتشدد الذي يحمله بعض الدعاة، وينقلونه إلى البسطاء من المسلمين، المتحمسين لخدمة الدين، والذود عنه، فيعتنقون هذا الفكر المنحرف، ويطبقونه على الآخرين، ويؤذونهم، ويلحقون الضرر بالإسلام، وهم يعتقدون أنهم يخدمون دينهم، وينظرون لغيرهم من المسلمين نظرة غرور وصلف، معتقدين أنهم كفار وعصاة.

والسبب الثاني يتعلق بنفوس مريضة لا يمكن أن تتقبل سوى الأفكار المنحرفة، حيث إنها تستهويها، وتنجذب إليها، فلا عجب إن رأيت مسلمين لا يصلون، ولا يعرفون من الإسلام سوى اسمه، لكنهم يجاهرون بتأييدهم الجماعات المتشددة، وربما يسارعون إلى الانضمام إليها.

سألته: وما تفسيرك لسرعة ترك الشبان الرومانيين، السابق ذكرهم، التزمّت، وعودتهم إلى حياة الخلاعة؟

أجاب: هذا طبيعي، بشّر به الرسول صلى الله عليه وسلم، حينما قال: لن يشادّ الدين أحد إلا غلبه. وتفسير الحديث أن الدين لا يؤخذ بالمغالبة، فمن شاد الدين غلبه وقطعه، ومن أراد أن يقتدي بالنبي محمد، سيكون ذلك غير شاق عليه، وأما من شدد على نفسه، فلم يكتف بما اكتفى به النبي، فإن الدين يغلبه.

سألته: إذن، هل تعتقد أن هذا سيكون نفسه مصير الجماعات المتشددة؟

أجاب: لا يساورني أدنى شك في هذا، فهذا وعد نبي الإسلام، وهذا ما يقوله المنطق والعقل، وهذا ما تقوله قصص التاريخ، فأين جماعة الخوارج وغيرها من الفرق المتشددة والمتزمتة؟ غلبها الإسلام وسماحته، وطواها الزمان، كما سيطوي غيرها من الجماعات.

ختمت حديثي مع الصديق، وقد اعتراني بعض الأمل. لكن، سرعان ما قلت لنفسي: ترى، أي ضرر ستلحقه هذه الجماعات بالإسلام، قبل اختفائها؟

ألم يقل الشيخ محمد الغزالي: إن انتشار الكفر في العالم يحمل نصف أوزاره متدينون بغّضوا الله إلى خلقه بسوء صنيعهم وسوء كلامهم؟ وألم يقل كذلك الشيخ أحمد ديدات: أشرس أعداء الإسلام هو مسلم جاهل يتعصب لجهله، ويشوه بأفعاله صورة الإسلام الحقيقي، ويجعل العالم يظن أن هذا هو الإسلام؟

EE1D3290-7345-4F9B-AA93-6D99CB8315DD
ياسر البنا

كاتب وصحافي فلسطيني مقيم في قطاع غزة