ها هو دايف إيغرز (1970) يخرج برواية جديدة عنوانها "أين هم آباؤك وهل يعيش الأنبياء للأبد" (إصدار هاميش هاميلتون)، مواصلاً انقضاضه على الحياة الأميركية، بعد أن أجهز على حياته الشخصية في أولى أعماله "عمل مفجع لعبقرية مذهلة" (2000)، أتبعه عام 2002 بأولى رواياته "عليك أن تعرف سرعتنا"، ولتتوالى أعماله الروائية وغير الروائية ونصوصه السينمائية، لا بل إنه كتب رواية "أشياء برية" (2009) مستوحياً إياها من سيناريو فيلم سبايك لي "حيث تكون الأشياء البرية" الذي كتبه إيغرز نفسه مقتبساً إياه من كتاب مصوّر لموريس سنداك.
مع إيغرز نحن حيال كائن أدبي لا يعرف الرحمة ببياض الورقة، والجملة الافتتاحية في كتبه تشبه عملية اقتحام لا يستبقها بأي تمهيد، وهو عصي على التصنيف أسلوبياً، ليس لأسباب متعلقة بالأصالة، بل لغزارته وعدم استقراره على نمط بعينه.
لا تسكن ديناميكية صاحب "زيتون" (الكتاب الوحيد المترجم له إلى العربية) إلى عالم، بل تقفز من عالم إلى آخر، بين الخيالي والواقعي، والمزج بينهما، وصولاً إلى مشاركته في كتب مصوّرة وأخرى فكاهية، ما يجعله ابناً شرعياً لنورمان ميللر (1923 – 2007) ذاك الذي يصعب الإطباق عليه بيد وهو يتسرب من بين الأصابع بمؤلفاته الكثيرة المتنوعة، وهو يلاحق مارلين مونرو ومحمد علي كلاي، ويعيد كتابة الإنجيل حسب الابن.
يحسم إيغرز في "أين هم آباؤك ..." انحيازه التام للخيال، متعاطياً مع الواقع بمقاربة مختلفة عن رواياته السابقة المتصلة بعالم محدد يمكن إحالة الرواية إليه، ففي "سيركل" (2012) تشكّل مملكة الإنترنت معبراً للمتخيل، بينما تجد "صورة ثلاثية الأبعاد للملك" (2013) من السعودية مساحة صحراوية للأزمة الاقتصادية ومآلاتها بالنسبة لرجل الأعمال الأميركي.
ستدفع رواية "أين هم آباؤك وهل يعيش الأنبياء للأبد" إلى البحث عن إجابة للسؤالين في العنوان، وتتبع الحوار الذي يشكل كامل الرواية، من دون الاستعانة بأي أداة سردية أخرى، وهي تنتقل بنا من مبنى إلى آخر في قاعدة عسكرية أميركية مهجورة على شواطئ الأطلنطي.
تشكّل هذه المباني فصول الرواية، حيث يحتجز توماس (الشخصية الرئيسة) في عدد منها أشخاصاً ليتحاور معهم، أو كما يقول لكل واحد منهم "أنا أسأل وأنت تجيب ثم أطلق سراحك" رغم تقييده لكل واحد/واحدة إلى عمود بسلسلة حديدية، وليكون توماس الراوي أيضاً، لكن الراوي المحاور، المتحكم بالأسئلة والظروف التي وضع فيها شخصيات الرواية، من دون أن يهيمن علىها، وليمارس الحوار كل ما يمكن للسرد الروائي أن يفعله، خاصة أن البنية الرئيسة للرواية يمكن حصرها في وحدة مكانية، ومن السهل أيضاً وضعها في وحدة زمانية وإن كان الزمن الغني للرواية يمتد لأسبوع واحد، إذ من اليسير مسرحة الرواية أو تحويلها فيلماً.
تبدأ الرواية بالفصل المعنون "المبنى 252" والسطر الأول يقول "لقد فعلتها. أنت هنا بحق. رائد فضاء. يا إلهي/ من أنت؟/ أنت تعاني ربما من الصداع من أثر الكلورفورم".
ستمنح هذه البداية معبراً نحو جنون ما سيتوالى والذي سرعان ما تحيط به رصانة سردية، والعالم الكامل لتوماس ومن يحتجزهم يتشكّل ويتماسك أكثر، فرائد الفضاء "كيف"، يشكّل لتوماس رجلاً قادراً على القيام بكل شيء هو الذي يعرفه من المدرسة، فعدا عن تفوقه في الدراسة و البيسبول، فقد انتسب إلى البحرية ووكالة الفضاء الأميركية "ناسا"، وهو يتكلم الأردو التي تعلمها في نطاق "الحرب على الإرهاب".
ومع الانتقال إلى الفصل الثاني "المبنى 253" سنكون حيال عضو الكونغرس المتقاعد ديكنسون، بينما يشغل هانسن "المبنى 254" هو المهووس جنسياً بالأطفال الذي كان مدرساً لتوماس وصديقه "دون"، أما "المبنى 255" فسيكون مخصصاً لأمه.
هؤلاء هم المخطوفون الأربعة الذين سيضاف إليهم في الثلث الأخير من الرواية شرطي يودع في "المبنى 57" وقد اختطفه توماس من دون معرفته بأنه واحد من الاثني عشر شرطياً الذين أردوا صديقه "دون" بسبع عشرة طلقة.
كما سيختطف توماس موظفة الاستقبال في المستشفى الذي نقل إليه "دون" ويودعها في "المبنى 60"، بينما ستشغل في الفصل ما قبل الأخير سارة "المبنى 48" وهي المرأة التي تشكل في الرواية الاتصال الوحيد لتوماس مع العالم بعيداً عن المختطفين وهو يقع عليها تتمشى وكلبها على شاطئ المحيط فيقع في حبها ويجد فيها خلاصه.
تمنح الرواية مساحة كبيرة للتأويل، ولا تغيب عنها بنى التوتر والفضول والمفاجأة رغم كونها متأسسة تماماً على الحوار، فالتوتر حاضر من السطر الأول مع أن توماس يؤكد على الدوام بأنه لن يُلحق الأذى بأحد فهو حسب تعبيره "رجل أخلاق ومبادئ"، والفضول لا يغيب أبداً في ترقب مصائر الشخصيات ومصير توماس نفسه، بينما تكون المفاجأة حاضرة من فصل إلى آخر كما هو الحال في اكتشاف أن توماس اختطف أمه. لا تأتي المفاجآت من أية انعطافات أو انزياحات حادة، إلا أن أهمها يكون في اكتشاف ملابسات مقتل صديقه "دون" من خلال استنطاق الشرطي.
لا يقوم "دون" بأي فعل يستدعي نهايته المفجعة، فهو يدخل مطعماً ويقوم بالقفز من طاولة إلى أخرى وسرقة شراب منه، وغير ذلك من أفعال، وهو يصرخ أنه هو من كتب الإنجيل وأن كل من حوله ليسوا إلا ظلالاً وهو الضوء، لينتهي جراء هذه الأعمال الممسوسة وهو محاصر بثلاثة رجال شرطة وتسعة من قوات الاقتحام، وليقتل وهو على مبعدة 21 قدماً عنهم وهو لا يحمل إلا "سكين ستيك".
سيقول الشرطي لتوماس إن "دون" قُتل بثلاث رصاصات، ولن نعرف أن 17 طلقة قد استقرت بجسده إلا من خلال موظفة المستشفى، وأن الشرطة زوّرت أوراقاً بغرض أن تحرق جثته، بما في ذلك توقيع والدته التي منعت هي وتوماس من رؤية الجثة.
عدا هذه القصة التي نكتشفها في الثلث الأخير من الرواية، فإن الفصول السابقة تضيء على المستويات المتعددة التي قادت توماس لما هو عليه، فرائد الفضاء يضيء على المستوى الشخصي، ممثلاً لكل ما عجز عن تحقيقه، بينما يكون ديكنسون مساحة للإضاءة على القيم والمثاليات المصطدمة بالنظام السياسي، فهو يريد أن يكون مثل ديكنسون الذي فقد ذراعه ورجله في حرب فيتنام، وتوماس بالنسبة لديكنسون ممن يتمنون أن يكونوا "جزءاً من
الصراعات التي تتيحها ألعاب الفيديو بأهداف أخلاقية واضحة"، وتوماس يقول له بدوره إن الحكومة الأميركية لا تكون مفلسة إلا حين يتعلق الأمر بالتعليم والصحة بينما "تنفق 150 مليون دولار على مكيفات الهواء في العراق".
لعل فعل التعرية الأكبر لشخصية توماس يكون قادماً من حواره مع أمه، هو الذي نشأ وترعرع كما صديقه "دون"، وأجيال أميركية بأكملها في رعاية أمهات وحيدات، وأمه تقول له إنها أرادت له أن يكون سعيداً فاختار "أن يكون وحيداً" مثل نبي ضائع، أو أنه صديقه "دون" بوصفه أيضاً نبياً مضطرباً لن يعيش للأبد كما عنوان الرواية.