10 نوفمبر 2024
داعش يصوّت في الانتخابات الفرنسية
عشية الانتخابات الرئاسية الفرنسية غير المحسومة وحمّالة المفاجآت، أطلق إرهابي النار على عربة لشرطة المرور تنظّم السير في أحد أجمل شوارع العالم وأكثرها زحاماً: الشانزليزيه. الشارع الذي على بضعة أمتار من القصر الرئاسي، ويُمثّل رمزاً وطنياً حيث تُقام فيه استعراضات عيد الجمهورية في 14 يوليو/ تموز من كل عام، كما أنه من أهم المعالم السياحية التي يرتادها الأثرياء، فيستقبلهم بأغلى المحلات والخدمات. وكما هي كل الأماكن مرتفعة التكلفة ومشهورة الاسم، هو شارع الارتياد العربي الثري بامتياز. كريم، وهذا اسم المجرم، سبق أن حاول، ولأسباب جرمية لا دينية، قتل ثلاثة من رجال الشرطة سنة 2001 وحكم عليه مدة طويلة، ولكنه خرج بعد 12 عاما مستفيداً من النظام القضائي الفرنسي "الرؤوف".
حصل الاعتداء الذي أثار الهلع في كل أنحاء العاصمة الفرنسية، في أثناء خروج مرشحي الرئاسة الأحد عشر على الشاشة، في توقيتٍ كان مقرّراً قبل الاعتداء ليتوجهوا إلى ناخبيهم. فات الحظ مجملهم، لأن مداخلتهم المباشرة جاءت في أثناء الاعتداء، فلم يُعلّقوا عليه، ولكن اثنين منهم على الأقل، فرانسوا فيون، مرشح حزب الجمهوريين اليميني، وإيمانويل ماكرون، مرشح الوسط، تمكنا من الاطلاع سريعاً على الأخبار الأولية، وأدمجا تعليقاتٍ لهما على الحدث في مواجهة الكاميرا. وظهر جلياً مدى محاولة فيون، وهو المتراجع في استطلاعات الرأي،
بسبب فضائحه المالية وتصريحاته المتناقضة حولها، القفز على هذا الحدث، واستخلاص أعظم الفائدة منه، ليحصر الأمر بضرورة محاربة الإرهاب الإسلامي، مضيفاً إليه، بطريقةٍ تدعو إلى الاستغراب، اتهاماً مبطناً لبعض الجمعيات الإسلامية الفرنسية المرخصة، معتبراً أنها تعمل لصالح "أممية" جماعة الإخوان المسلمين، وداعياً إلى حلّها، وربما، ملاحقة أعضائها. لم يترك هذا المرشح فرصة لمرشحة اليمين المتطرّف العنصري، مارين لوبان، لتضيف شيئاً. لقد مارس المزاودة السياسية، ودعا إلى التحالف مع روسيا وإيران والنظام السوري لمحاربة الإرهاب، بوعيٍ منقوص ومغالط لم يأبه لحمولته الملوّثة. كان يُدغدغ ناخبي التطرّف والرهاب الإسلامي والعنصريين من كل المكونات السياسية، حيث لا يمكن حصرهم باليمين المتطرّف حتماً. واسترسل المرشح اليميني، الخاضع نظرياً للملاحقة القضائية في قضايا الفساد، وصار يدعو إلى اعتقالات جماعية، تطاول كل المشبوهين والمراقَبين. كما دعا إلى اللجوء إلى فقرة دستورية، تم التغافل عنها عقوداً، وهي تسمح بتجريد الخائن من الجنسية، معتبراً أنها الصفة الأنسب لمن يُدان، أو يُشكك بقيامه بعمل إرهابي على الأراضي الفرنسية.
من ناحيته، كان إيمانويل ماكرون أكثر هدوءاً، ولم يقايض بالمشاعر، كما فعل فيون الذي بدا عليه وكأنه ركض مسافة طويلة ليلهث أمام الكاميرا، مضيفاً شيئاً من المؤثرات الخارجية على مضمون كلامه السطحي. حيث نبّه ماكرون إلى خطورة الإرهاب وتأثيره على حيوات الفرنسيين، من دون الوقوع في فخ الدغدغة المناسباتية لعواطف الناس العاديين التي لطالما أجادها اليمنيون المتطرّفون، كما بعض اليمين التقليدي. وقد نبّه بصورة جليةٍ إلى ضرورة عدم الخلط في الأمور، وفي طرح المفاهيم، وفي اتهام مجموعة بشرية، تشكل مكوناً مهماً في المجتمع الفرنسي. داعياً إلى تعزيز مفاهيم العيش المشترك، لمجابهة محاولات من يسعى إلى تهديده بيد واحدة.
توجهان أساسيان يحاولان استقطاب الناخبين بطرائق مختلفة. وعلى الرغم من أن الديمقراطية
"شرك" لدى تنظيم داعش ومستقطبيه، فإنه أدّى "واجبه"، وأدلى بصوت الموت في الانتخابات بشكل مسبق، فأسدى الخدمة الأكبر لليمين المتطرّف، كما الجمهوري المدعوم روسياً، والذي يُغازل الرئيس فلاديمير بوتين في الصاعدة والنازلة. كما يجمعه حب الطغاة العرب والدفاع عن موبقاتهم السياسية والائتمانية. وبالتالي، ساهم "داعش"، بوعي كبير وعميق، في حملاتٍ انتخابيةٍ تقوم بها أجهزة استخباراتية وإعلامية روسية على الأراضي الفرنسية. ولا تخلو هذه الحملة من تنوّع، فمن أقصى اليمين مع مارين لوبان، مروراً بوسطه مع فرانسوا فيون، ووصولاً إلى أقصى اليسار مع جان لوك ميلانشون.
التصويت الداعشي في الانتخابات الرئاسية الفرنسية هو الأول تقريباً من نوعه في الاستحقاقات الديمقراطية، فأن تقوم منظمة إرهابية بالمشاركة "الفاعلة" في عملية ديمقراطية، سيكون درساً أساسياً في مستقبل العلوم السياسية. في المقابل، ستكون ردود الفعل على هذه المشاركة غير المنتظرة والملفوظة، أيضاً مؤشّراً مهماً لدراسة مدى اضمحلال الوعي الديمقراطي أو نموه. فمن سيخضع إلى الدغدغة الدموية التي نفّذها داعش ليستفيد منها عن قصد أو من دونه، مرشحو فلاديمير بوتين، سيكون مساهماً في ضعضعة المؤسسة الديمقراطية التي طالما تغنت بها بلد الحرية والعدالة والأخوة. أما مواجهة هذه الوصولية السياسية، بمن أدارها ومن نفّذها، بالوعي المدني، وبالتلاحم الوطني، وبتعزيز مفاهيم العيش المشترك، والانفتاح على كل التنوع الذي يعيشه المجتمع، فستكون هي الحل الأنسب للهروب من مصيرٍ غامضٍ، تعمل القوى الظلامية، على مختلف توجهاتها، على إيقاع الفرنسيين في أتونه.
صوّت "داعش"، في الأمس القريب، بنعم للمرشحين الأسوأ سياسياً وأخلاقياً، وصاحبي النظرية الإسلاموفوبية بامتياز. لكن الديمقراطية تقتضي رفض هذا التصويت واعتباره لاغياً. فهل سيفعلها الفرنسيون؟
حصل الاعتداء الذي أثار الهلع في كل أنحاء العاصمة الفرنسية، في أثناء خروج مرشحي الرئاسة الأحد عشر على الشاشة، في توقيتٍ كان مقرّراً قبل الاعتداء ليتوجهوا إلى ناخبيهم. فات الحظ مجملهم، لأن مداخلتهم المباشرة جاءت في أثناء الاعتداء، فلم يُعلّقوا عليه، ولكن اثنين منهم على الأقل، فرانسوا فيون، مرشح حزب الجمهوريين اليميني، وإيمانويل ماكرون، مرشح الوسط، تمكنا من الاطلاع سريعاً على الأخبار الأولية، وأدمجا تعليقاتٍ لهما على الحدث في مواجهة الكاميرا. وظهر جلياً مدى محاولة فيون، وهو المتراجع في استطلاعات الرأي،
من ناحيته، كان إيمانويل ماكرون أكثر هدوءاً، ولم يقايض بالمشاعر، كما فعل فيون الذي بدا عليه وكأنه ركض مسافة طويلة ليلهث أمام الكاميرا، مضيفاً شيئاً من المؤثرات الخارجية على مضمون كلامه السطحي. حيث نبّه ماكرون إلى خطورة الإرهاب وتأثيره على حيوات الفرنسيين، من دون الوقوع في فخ الدغدغة المناسباتية لعواطف الناس العاديين التي لطالما أجادها اليمنيون المتطرّفون، كما بعض اليمين التقليدي. وقد نبّه بصورة جليةٍ إلى ضرورة عدم الخلط في الأمور، وفي طرح المفاهيم، وفي اتهام مجموعة بشرية، تشكل مكوناً مهماً في المجتمع الفرنسي. داعياً إلى تعزيز مفاهيم العيش المشترك، لمجابهة محاولات من يسعى إلى تهديده بيد واحدة.
توجهان أساسيان يحاولان استقطاب الناخبين بطرائق مختلفة. وعلى الرغم من أن الديمقراطية
التصويت الداعشي في الانتخابات الرئاسية الفرنسية هو الأول تقريباً من نوعه في الاستحقاقات الديمقراطية، فأن تقوم منظمة إرهابية بالمشاركة "الفاعلة" في عملية ديمقراطية، سيكون درساً أساسياً في مستقبل العلوم السياسية. في المقابل، ستكون ردود الفعل على هذه المشاركة غير المنتظرة والملفوظة، أيضاً مؤشّراً مهماً لدراسة مدى اضمحلال الوعي الديمقراطي أو نموه. فمن سيخضع إلى الدغدغة الدموية التي نفّذها داعش ليستفيد منها عن قصد أو من دونه، مرشحو فلاديمير بوتين، سيكون مساهماً في ضعضعة المؤسسة الديمقراطية التي طالما تغنت بها بلد الحرية والعدالة والأخوة. أما مواجهة هذه الوصولية السياسية، بمن أدارها ومن نفّذها، بالوعي المدني، وبالتلاحم الوطني، وبتعزيز مفاهيم العيش المشترك، والانفتاح على كل التنوع الذي يعيشه المجتمع، فستكون هي الحل الأنسب للهروب من مصيرٍ غامضٍ، تعمل القوى الظلامية، على مختلف توجهاتها، على إيقاع الفرنسيين في أتونه.
صوّت "داعش"، في الأمس القريب، بنعم للمرشحين الأسوأ سياسياً وأخلاقياً، وصاحبي النظرية الإسلاموفوبية بامتياز. لكن الديمقراطية تقتضي رفض هذا التصويت واعتباره لاغياً. فهل سيفعلها الفرنسيون؟