سورية: هل أملك إجابة؟

08 ديسمبر 2024

علم الثورة السورية يزيّن عبارة "أحب حلب" في حلب (5/12/2024 الأناضول)

+ الخط -

لطالما سُئلت من القريبين والبعيدين إن كنتُ سأعود يوماً لزيارة مدينتي حلب، إن خرجت منها قوات النظام السوري، بعساكرها وأمنييها وشبّيحتها وحماتها العرب والأجانب. ولطالما تردّدت إجابتي في أن تمنح وضوحاً وثباتاً. ولطالما استدام تردّدي المفعَم بألم الحنين بعد فراق أكثر من 14 عاماً.

في آخر زيارة لي قمتُ بها لبيتنا في حلب سنة 2010، خرجت ذات صباح لأسترجع ذكرياتي ومساري اليومي إلى مكان عملي السابق على الأقدام، وهذا يعني الانتقال من حيٍّ سكنيٍّ في غرب المدينة مروراً بوسطها للوصول إلى مركزها التاريخي في أطراف أسواقها القديمة. وعند وصولي إلى منتصف الطريق، وقعتُ على تظاهرة لا بأس بحجمها ترفع شعارات مطلبية، وصوراً لزعماء وطنيين زيّنوا نسبياً تاريخاً تلا الانتداب الفرنسي وصولاً إلى انقلاب حزب البعث سنة 1963. وقْع المفاجأة كان كبيراً، لأنني، على الرغم من غربتي الطويلة، أعرف طبيعة النظام الحاكم الذي لا يسمح بتجمّع عدة أشخاص في مكان عام دونما تصريحٍ من أجهزته الأمنية الساهرة على أمنه واستدامته. كانت هذه المفاجأة عظيمة إلى درجة أن دموعي تجاوزت مقلتيّ، لتصبّ بشدة على خديَّ الملتحيَين، تعبيراً عن سعادتي بحدوث "تطوّر" ما في العقلية التي تتحكّم بشؤون البلاد والعباد. أضف إلى ذلك هدوء عناصر الشرطة الذين كانوا يؤطّرون التظاهرة، وهم يتبادلون الأحاديث وابتساماتهم النادرة تمنح المرء راحة نفسية، تشير إلى استيعابٍ نادرٍ لمثل هذا النشاط الاحتجاجي السلمي شديد الجدّة والغرائبية في بلدٍ أنفاسُ سكانه تُحصى وكلماته توزَن بمقاييس الذهب.

حينذاك، قرّرتُ الاقتراب أكثر، والاستفادة من أريحية رجال الأمن، لممارسة عملي البحثي وسؤال المشاركين في مقدّمة التظاهرة عن السبب وراء نشاطهم، والاستفسار عن السبب وراء اختيار صور شخصيات بعينها. لكنني سرعان ما استيقظت من وهمي الذي كاد أن يُصالحني جزئياً مع الأمل بحراكٍ شعبي يُحاكي تفتّح براعم ربيعٍ عربيٍ منشودٍ، كدتُ أن أمحوه من قاموس آمالي، ففور اقترابي من مقدمة الجموع، صرخت حنجرة مليئة بالتبغ وبالتعب وبالقرف: "ستوب... يا حيوان ألا ترى أننا نصوّر؟".

يبدو أن حلب تحرّرت من عسف السلطة بانتظار ما ستؤول اليه الترتيبات السياسية المنظورة

وبمعزل عن شدة التهذيب التي قوبلت بها من هذا الصوت القذر، سارع رجال أمن إلى الإحاطة بي ودفعي إلى الخروج من حقل التصوير التلفزيوني الإبداعي الذي كانوا مستأجرين لحمايته من عبث عابثٍ إن جرؤ. لم أشعُر بالإهانة التي تعوّدها السوريون عقوداً بقدر ما شعرتُ بالإحباط العظيم الذي حطم توقعاتي المتفائلة، وأعادني إلى "حضن الوطن" الذي يعيش حتى الاستساغة قمعاً مستداماً، وعلى درجات وتباينات مختلفة. إثر هذا الفخ الذي تعثّرت به، عدتُ أدراجي، مستنكفاً عن متابعة جولتي، وأنا أناجي النفس التي كانت أمّارة بالأمل، أن تعود إلى رُشدها وإلى تشاؤمها التقليدي. وعدتُ بعد أيامٍ إلى منفاي الاختياري، متخلّياً عن تَوقي إلى عيش تجربة إنسانية تحمل انفتاحاً تدريجياً لمسارٍ اعتقلته رؤيةٌ تسلطيةٌ على البلاد.

شكّلت صناعة الدراما التلفزيونية في سورية ثروة أغنت كثيرين ممن استفادوا من جرأة مصطنعة وكوميديا تنفيسية رضي عنهما الحاكم، ومنهما استفاد. أما دراما الحياة والمعيشة الذليلة، فقد أرخَت بأجنحتها المُدماة على عقول (وقلوب) الجزء الأكبر من فاقدي المواطنة ومن رعايا الاستبداد، كما رعاته أحياناً. فيما اعتبر بعضٌ من الباحثين الغربيين المهتمين بسورية وقتذاك هذا الإنتاج الدرامي، الذي يستعيد حقباً تاريخية حافلة بالنشاط السياسي وبحرية تعبير نسبية، ما هو إلا مؤشّر على نوعٍ من الانفتاح السياسي المؤطّر، الذي يمكن أن تُبنى على أساساته استنتاجاتٌ لا حول لها ولا قوة ولا معنى.

بعد عدة أشهر من هذه التجربة المرّة، خرج سوريون وسوريات في مظاهرات حقيقية بعيداً عن كل أنواع التغطية الإعلامية، وبدأوا بالموت تدريجياً وبأعدادٍ كبيرةٍ، على الرغم من تحرّكهم السلمي، تحت وابل رصاص العسس الذي استساغ دماءهم. وسرعان ما تحوّلت ثورتهم الى مقتلة مستمرّة، تابعها أغلب الرأي العام العالمي بصمتٍ شريكٍ، واستغلّتها قوى إقليمية ودولية لتعديل درجات سيطرتها على حساب حيوات السوريين.

هل سيقبل الدبّ الروسي بالدخول في سباتٍ شتوي والسلطان التركي بأن حلب ليست "له"؟ وهل سيقبل المرشد الإيراني بخسارة جديدة، وهل ستصمت أبواقه مشرقاً ومغرباً؟

اليوم، بعد أن سيطرت قواتٌ غير حكومية تتبنّى شعارات الثورة ومبادئها وترفع علمها، وتنادي بالتغيير نحو الأفضل، حتى إشعار آخر، جرى تكرار السؤال من كل حدب وصوب إن كنت أنوي زيارة حلب التي افتقدها، والتي يبدو أنها تحرّرت من عسف السلطة بانتظار ما ستؤول اليه الترتيبات السياسية المنظورة على ما يُظنُّ. تردّدت الإجابة بالإفصاح عن حمولتها، وتنازع في ثنايا تفكيري عنصرا العقل والعاطفة. وتزاحمت الأسئلة في ذهني، عما إذا كنت سأتحمّل مشاهد الدمار المادي والمجتمعي التي تنوء تحت حمولتها الثقيلة حلب كسواها من الحواضر السورية. هل سيتمكّن الناس، حالما يصبحون مواطنين، ويتخلون عن لعب دور الرعية الخاضع، من أن يخرجوا إلى التظاهر مطالبين بالحقوق من دون مُخرجٍ تلفزيوني؟ هل سينفتح القائم الجديد على شؤون البلاد والعباد باتجاه جميع السوريين والسوريات ليتشاركوا في عملية إعادة البناء على تنويعاتها؟ هل سيقبل الدبّ الروسي بالدخول في سُباتٍ شتوي والسلطان التركي بأن حلب ليست "له"؟ وهل سيقبل المرشد الإيراني بخسارة جديدة، وهل ستصمت أبواقه مشرقاً ومغرباً؟

لائحة لا منتهية من الأسئلة لستُ مؤهلاً للإجابة عنها، ولكنني وعدتُ أمي وأبي اللذين قضيا في المنفى الاختياري أن أعيدهما إلى حلب، فهل سأفعل؟