داعش تدمّر الثورة العراقية بتهجير المسيحيين
كنا نتمنى أن تؤجل الدولة الإسلامية "داعش" تطبيق شرعها وفقهها وأحكامها على البلاد والعباد، إلى حين أن تحقق الثورة العراقية أهدافها، غير أنها، وكعادتها، لا تنتظر، فهي مشغولة دوماً بتطبيق ما تقول إنه شرع الله، فكان أن خيرت مسيحيي الموصل ونينوى بين الإسلام أو الجزية أو السيف، الأمر الذي اضطر مئات من تلك العوائل لمغادرة المدينتين مضطرين، ونينوى كانت، ومازالت، أقدم قلاع المسيحية في العالم، وليس الشرق الأوسط فحسب.
عندما انطلقت شرارة المعارك في مدينة الأنبار، نهاية العام الجاري ومطلعه، بحجة أن خيم الاعتصام كانت تأوي قياديين في القاعدة، بحسب اتهام الحكومة العراقية، اضطر أبناء العشائر في محافظة الأنبار لحمل السلاح، والدفاع عن مدينتهم، خصوصاً بعد أن أقدمت تلك القوات على اعتقال النائب أحمد العلواني، من داخل منزله في الرمادي، ومقتل شقيقه، وعدد من حمايته، وهو أمر له ما له بالنسبة لمدينة عشائرية، مثل الأنبار، ناهيك عن الحصانة التي يتمتع بها العلواني.
يومذاك، لم يفلح المالكي، وحزبه، في إلصاق تهمة القاعدة أو داعش بثوار عشائر الأنبار، على الرغم من كل محاولاته، وعلى الرغم من كل ما بذله إعلامه والإعلام العربي المتحالف معه، فكان أن استمرت المعركة وطالت وكبدت جيش المالكي خسائر كبيرة بالأرواح والمعدات، من دون أن تتمكن تلك القوات من اقتحام مدينة الفلوجة، بعد سبعة أشهر من بدء القتال.
فجأة، ومن دون حتى بوادر أولية، انضمت مدن أخرى للأنبار في قتالها، مدن الاعتصامات الستة، فكان أن انهار الجيش العراقي أمامها يوم العاشر من يونيو/ حزيران الماضي، وسقطت الموصل بيد الثوار، وبعدها المدن الأخرى، وكان السؤال متى سيدخل الثوار بغداد؟ غير أنه بقي سؤالاً معلقاً لا يجد إجابات شافية عن سبب تأخرهم في دخول بغداد، خصوصاً وأن الأمور كانت على ما يبدو مهيأة جداً.
كان السؤال الذي يواجهنا، أينما ذهبنا، هل فعلًا إن داعش هي من سيطرت على المدن العراقية وعلى ثوار العشائر؟
كان جوابنا واحداً، تنظيم الدولة الإسلامية، أو داعش، جزء من مجموعة فصائل مقاتلة، ولا يمكن اختزال المشهد بهم دون غيرهم، وفعلاً، كانت هناك فصائل لها دور كبير في السيطرة على المدن، وطرد قوات المالكي التي أذاقت الناس الويلات. وقلنا أيضاً إننا نعلم أن لا أمان لهذا التنظيم، فهو يختلف، جوهراً ومضموناً، بأهدافه وفكره عن أهداف الثوار وأفكارهم، إلا أنه من غير المناسب، الآن، أن نفتح جبهة معه.
كنا نعلم أن المواجهة مع داعش مؤجلة، وأن هذا التنظيم الذي لا يعترف إلا بما يؤمن به فقط، ولا يمكن التفاهم معه، إذا ما تمكن، فإنه سيضطر الثوار إلى المواجهة. كنا نتمنى أن تكون داعش، القاعدة سابقاً، قد اتعظ من دروس الماضي القريب، يوم أن سيطرت القاعدة على أجزاء واسعة من محافظة الأنبار، بين عامي 2005-2006 إبان الاحتلال الأميركي، وكيف أن قائد تلك القوات آنذاك، ريكاردو سانشيز، قال في مؤتمر صحفي شهير في المنطقة الخضراء قولته الشهيرة "ربما فقدنا الأنبار إلى الأبد".
وفعلاً، كان يمكن أن تكون الأنبار منطلقاً لتحرير العراق، ليس من الأميركيين فحسب، وإنما من كل ذيول عمليتهم السياسية، وطبعا إيران معها، غير أن هذا التنظيم لا يعرف سوى الإقصاء والقتل لكل من يخالفه، فكان أن بدأ بنشر أفكاره، وحاول تطبيق شرع على الناس، فضجت الأنبار، واستاءت العشائر، فشكلت قواتها الخاصة التي عرفت بالصحوة لطرد القاعدة، ونجحت.
اليوم، تعيد القاعدة بنسختها المحدثة، داعش، تفاصيل تلك الأيام، فتقرر طرد مسيحيي الموصل، بطريقة أقل ما يقال عنها إنها جبانة وغير إنسانية، ليس لأن الأمر يتعلق بالمسيحيين دون غيرهم، ولكن، لأن هذه الأفعال سوف تنسحب سلباً على الثورة العراقية، وستضطر فصائل أخرى قاتلت إلى جانب داعش إلى التخلي عنها، وعن نهجها، وهو ما يريده المالكي وتريده إيران، ومن خلفهم أميركا.
لا يمكن بأي حال أن يتم السكوت على ما قامت به داعش في الموصل، لأنها بذلك أعطت الضوء الأخضر لما يسمى المجتمع الدولي لتدخل واسع بالعراق، وبدلاً من التعاطف الذي حققته الثورة المسلحة في العراق، بدافعية الظلم والطائفية التي مارستها حكومة المالكي، فإن الأمور قد تأخذ منحنى آخر، وتسحب البساط والإنجازات التي تحققت، حتى الآن، من خلال الثورة العراقية المسلحة.
المسيحيون في العراق ليسوا جزءاً من الشعب العراقي، بل هم أصل هذا الشعب وسكان هذه البلاد الأصليين، وبالتالي، فان ما يجري لهم معيب، ويمثل مثلبة بحق كل الفصائل المسلحة التي شاركت بعملية طرد قوات المالكي من المدن الثائرة. وبالتالي، فان هذه الفصائل مطالبةُ، أيضاً، بأن تقوم بدورها، وتسعى إلى ثني داعش عن أفعالها، وإلا فإنه لا خير في ثورةٍ، تقوم على الظلم والاضطهاد من أول أيامها.
ورم داعش كان مؤجل الاستئصال على ما يبدو، غير أن ما قام به في الموصل من طرد سكانها المسيحيين ينبغي أن لا يمر، وإلا فإن سحق الثورة العراقية المسلحة سيكون ممكناً، وربما أسرع مما كان يتمناه نوري المالكي وحزبه.