خنق غزة... جدران إسرائيلية ومصرية تحكم الحصار

غزة
الصحافي محمد الجمل
محمد الجمل
صحافي فلسطيني، يكتب لقسم التحقيقات في "العربي الجديد" من غزة.
23 اغسطس 2020
تحقيق غزة
+ الخط -


زاد المزارع الغزي خالد قديح، من كميات الأسمدة والمخصبات الكيميائية، في محاولة لمواجهة آثار تراجع خصوبة أرضه الزراعية الواقعة شرقي خان يونس، في جنوب قطاع غزة المحاصر، بعدما أنشأت دولة الاحتلال جدارا فوق وتحت الأرض يحيط بالناحيتين الشرقية والشمالية للقطاع.

وتراجعت خصوبة الأراضي الزراعية القريبة من مسار الجدار، وفق قديح والمزارع محمد معمر، وثمانية آخرين، يؤكدون أن إلقاء آلاف الأطنان من المتفجرات في تلك المناطق منذ 2014 وحتى أغسطس/آب 2020، أدى إلى تضرر التربة، والتي ازدادت أوضاعها سوءا، منذ إنشاء الجدار، ما دفع المزارعين إلى زيادة المخصبات والأسمدة بنسبة تراوحت ما بين 30% و50%، مقارنة بالفترة التي سبقت إنشاء الجدار، إذ تراجع النشاط الحيوي للتربة، بنسب تتراوح ما بين 20% و40%، في منطقتي شرق خان يونس وبيت حانون، بسبب ملاصقة المناطق الزراعية الخصبة للجدار كما يوضح المهندس نزار الوحيدي، خبير التربة والمياه، والمدير العام السابق في وزارة الزراعة.

مواصفات جدار الاحتلال

بدأت دولة الاحتلال في بناء الجدار، في يناير/كانون الثاني عام 2018، وهو عبارة عن سياج إسمنتي فوق وتحت الأرض بطول 60 كيلومتراً، وبعمق يتراوح ما بين 40 مترا و50 متراً، ويتم إنشاؤه عبر إنزال أقفاص من الحديد المسلح في باطن الأرض قبل سكب الخرسانة، وفق ما رصد معد التحقيق وإفادة الخبير العسكري اللواء المتقاعد واصف عريقات، والمتخصص في الأمن القومي ونائب عميد كلية الشرطة الدكتور إبراهيم حبيب، واللذين أكدا أن العمق قد يكون أكثر من ذلك، ولفتا إلى أن ارتفاع الجدار يبلغ 6 أمتار.

إنشاء جدار تحت الأرض يصل حتى المخزون الجوفي في معظم المناطق، ويشكل عائقا صناعيا أمام الحركة الجانبية للمياه الجوفية

ويعمل في إقامة الجدار 1400 عامل أجنبي قدموا من البرازيل وإسبانيا وإيطاليا وألمانيا ومولدوفا، ضمن 50 مجموعة منتشرة على طول مسار الجدار الذي يبدأ من رفح جنوبا وحتى بيت لاهيا شمالا، ويستخدمون 100 آلية هندسية متطورة، إذ يستهلك إنشاء الجدار 2.3 مليون طن من الخرسانة و140 ألف طن من الحديد، بينما رصد معد التحقيق إنشاء عدد من معامل تجهيز الخرسانة، في ظل نشر أجهزة إنذار متطورة على طول مسار الجدار، لاستشعار ما يجري فوق وتحت الأرض، وبتكلفة إجمالية تبلغ حوالي 3 مليارات شيكل (الدولار الواحد يساوي 3.40 شواكل) بحسب ما ذكرته القناة "12 العبرية".

الصورة
غزة 2

 

ويمنع الجدار الذي يتواصل العمل من الثامنة صباحا وحتى الرابعة عصرا، "النشاط الحيوي الطبيعي" داخل التربة، وهو عبارة عن تفاعل مستمر لكائنات حية، مهمتها تحليل جزئيات التربة والمكونات العضوية، بما يؤدي إلى تراجع خصوبة الأرض، بسبب وجود عائق صناعي على عمق كبير يحد من نشاطها وحركتها بحسب ما أكده المهندسان الوحيدي وسعيد العكلوك، رئيس قسم النفايات والصرف الصحي بوزارة الصحة.

تداعيات إنشاء الجدار الجديد زادت من عوامل تصحر التربة شرقي القطاع بصورة واشحة، إذ بلغت مساحة الأراضي المتصحرة قبل عام 2015 نحو 115 ألف دونم، وزادت لاحقا بواقع 50 ألف دونم حتى بداية عام 2019، وما زال التصحر مستمرا كما يقول الدكتور أحمد حلس، رئيس المعهد الوطني للبيئة والتنمية، والأستاذ المساعد في برنامج ماجستير علوم المياه والبيئة بجامعة الأزهر.

حرب مائية وبيئية

يعتبر الدكتور حلس أن إنشاء الجدار حلقة من مخطط الحرب المائية والبيئية التي تشنها دولة الاحتلال على قطاع غزة، والتي مرت بثلاث مراحل خطيرة، الأولى كانت في سبعينيات القرن الماضي حين أنشأ كيان الاحتلال سدودا وعبارات تصريف مياه وأحواض تجميع عملاقة في النقب المحتل، حرمت القطاع من جريان العديد من الوديان السطحية عبره، والتي كانت تمد القطاع بالمياه العذبة السطحية والتي تتحول لاحقا إلى جوفية، مثل وادي غزة ووادي السلقا وسط القطاع، ووادي بيت حانون شمال القطاع، ما حجب ما بين 25 مليون متر و30 مليون متر مكعب من المياه سنوياً، ثم بدأت المرحلة الثانية بسرقة المياه العذبة الجوفية عبر 21 مستوطنة كانت تمتد من شمال قطاع غزة وحتى جنوبه، تم إخلاؤها بعد الانسحاب الإسرائيلي، في سبتمبر/أيلول عام 2005، بعد نحو 40 عاما من سرقة المستوطنين المياه عبر عشرات الآبار المقامة فوق الخزان الجوفي إذ تم نهب مئات الملايين من الأمتار المكعبة سنوياً، ما أدى إلى زيادة تركيز الأملاح في الخزان الجوفي لتصل إلى نسبة 98%، وتدهور الخواص الكيميائية للمياه، وأخيرا جاءت المرحلة الأكثر خطورة بحسب حلس، والتي تتمثل في إنشاء جدار تحت الأرض يصل حتى المخزون الجوفي في معظم المناطق، ويشكل عائقا صناعيا أمام الحركة الجانبية للمياه الجوفية، التي تتدفق من الشرق والشمال الشرقي لتستقر في خزان القطاع الجوفي، ما يحرم غزة كمية هائلة من المياه التي تغذي الخزان الجوفي المنهك أصلا، في ظل أن غزة تستهلك من الخزان المذكور 220 مليون متر مكعب سنويا لخدمة ما يزيد عن مليوني نسمة، في حين أن 70 مليون متر مكعب فقط من مياه الأمطار تصل إلى الخزان الجوفي كل عام.

الصورة
تحقيق غزة

ويؤثر الجدار على الطبيعة الجيولوجية للتربة شرقي غزة، والتي تبلغ مساحتها ربع إجمالي الأراضي الزراعية في غزة والمقدرة بـ 75 كيلومتراً مربعاً، كما يوضح حلس مشيرا إلى أن ذلك يجري في مرحلة البناء والإنشاء وعمليات الحفر التي تتزامن مع ضخ ملايين من الأمتار الخرسانية المكعبة، وضغط التربة وتلويثها ما يؤدي إلى زيادة ملوحتها، واتساع بقع التصحر، وحدوث طفرات جينية في المزروعات والماشية، كما يؤكد المهندس الوحيدي، والذي لفت إلى أن وزارة الزراعة فحصت التربة بجهاز لقياس الإشعاعات في عام 2015، وثبت وجود مواد مشعة في التربة وعناصر ثقيلة خطرة، لها علاقة بالطفرات الجينية وزيادة التصحر، وتشوهات الأجنة في المواشي.

حصار فوق الحصار

يعمد الاحتلال إلى خنق غزة، وعزلها بالكامل، عبر إغلاق شامل لأربعة معابر حدودية "تجارية" وهي "نحال عوز، كيسوفيم، صوفاه، كارني" وترك معبر وحيد وهو كرم أبو سالم وجميعها مقامة على حدود القطاع، بينما ينتهك بجداره الحقوق المائية والبيئية للشعب الفلسطيني والتي كفلتها القوانين والتشريعات الدولية التي ترعى حقوق الشعوب في المصادر الطبيعية والموارد البيئية المختلفة، وفق إفادة الحقوقي والمحامي بمركز الميزان لحقوق الإنسان، يحيى محارب.

ويخالف الجدار وبشكل صريح كما يقول محارب، البند 54 من البروتوكول الأول المرفق لاتفاقيات جنيف من العام 1977، والذي يحظر "مهاجمة، تدمير، إبعاد أو منع استخدام المرافق الحيوية للسكان المدنيين، بما في ذلك مخازن الغذاء، الحقول الزراعية ومرافق تزويد مياه الشرب، وشبكاتها وأشغال الري، والتربة الزراعية".

الصورة
تحقيق غزة 5

جدار مصري موازٍ

بالتزامن مع إنشاء إسرائيل جدارها حول غزة، تبني مصر جداراً على حدودها مع القطاع المحاصر، يشبه إلى حد كبير نظيره الإسرائيلي، من حيث استخدام الخرسانة، وإنشائه على جزأين تحت الأرض وفوقها، إضافة لآخر معدني أمامه، في ظل انتشار كثيف لآليات مصرية تعمل في البناء، الذي يحمل مجسات إلكترونية وكاميرات حرارية ترصد أي شخص يقترب من الحدود الفلسطينية المصرية التي يبلغ طولها 14 كيلومتراً، من معبر كرم أبو سالم وحتى شاطئ البحر الأبيض المتوسط، بعد سنوات من إقامة مصر منطقة حدودية عازلة تمتد لنحو خمسة كيلومترات داخل سيناء، وإزالة منازل ومزارع بمدينة رفح المصرية وقراها.

ويبلغ ارتفاع الجدار الأسمنتي في معظم المناطق نحو ستة أمتار وبقواعد خرسانية تصل إلى ثلاثة أمتار تحت الأرض، لمواجهة الأنفاق، وفق ما رصده معد التحقيق. ويرى الكاتب والمحلل السياسي مصطفى الصواف، أن الذرائع المصرية المعلنة لإقامة الجدار غير مقنعة، فلم تشكل غزة يوماً أي خطر على أمن مصر في ظل تنسيق عالي المستوي بين الطرفين على الحدود لمواجهة الإرهاب، قائلا :"الأنفاق كانت تمد غزة باحتياجاتها من المواد الغذائية التي منعت إسرائيل دخولها".

خنق المقاومة

يشكك الخبيران حبيب وعريقات، في تحجيم الجدار الإسرائيلي لقدرات المقاومة، أو منعها من تنفيذ عمليات في المستقبل، وحتى تحقيق هدف طمأنة المستوطنين ممن يوجدون ويقطنون قرب حدود غزة، بينما يرى أستاذ العلوم السياسية بجامعة الأمة الدكتور عدنان أبو عامر، أن هدف إنشاء الجدارين واحد، وهو منع تسليح المقاومة الفلسطينية، وإنشاء كيان معزول، يتم التحكم فيه عبر منافذ مصرية وإسرائيلية في ظل تنسيق أمني وسياسي على أعلى المستويات بين مصر دولة الاحتلال وهو ما بدا واضحا في تزامن إنشاء الجدارين، وبمواصفات عالية.

الصورة
تحقيق غزة 8

وتابع أبو عامر، في تصريحاته لـ"العربي الجديد": "غزة محاصرة بأربعة موانع، من الشرق والشمال جدار إسرائيلي صمم بمواصفات عسكرية وأمنية معقدة، ومن الغرب سيطرة إسرائيلية مطلقة على البحر، عبر أسطول يراقب كل حركة في فوق وتحت الماء، ومن الجنوب جدار مصري تم إنشائه بمتابعة وتنسيق بل وتحريض إسرائيلي"، بينما يرى الكاتب والمحلل السياسي طلال عوكل، أن الجدار الإسرائيلي هدفه السياسي يتمثل في إخراج قطاع غزة من المسؤولية الإسرائيلية، كدولة احتلال، واستكمال فصل القطاع عن الضفة والقدس، وإنهاء حل الدولتين، عبر تكريس انفصال قطاع غزة، لمنع قيام دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967.

ذات صلة

الصورة
معرض

منوعات

شهدت مدينة أوتريخت الهولندية، أمس الأحد، عرض 14 ألف حذاء لطفل بغرض لفت الأنظار إلى شهداء قطاع غزة من الأطفال الذين سقطوا على يد جيش الاحتلال الإسرائيلي.
الصورة
الطفل الفلسطيني يزن الكفارنة في مستشفى في رفح في قطاع غزة (جهاد الشرافي/ الأناضول)

مجتمع

في اليوم الـ150 من الحرب على قطاع غزة، توفي الطفل الفلسطيني يزن الكفارنة البالغ من العمر 10 أعوام، نتيجة إصابته بسوء تغذية حاد وسط نقص كبير في الإمدادات.
الصورة
تظاهرة تضامنية مع فلسطين وغزة في كتالونيا 26/11/2023 (روبرت بونيت/Getty)

سياسة

منذ صباح 7 أكتوبر الماضي بدا الاتّحاد الأوروبي، أو القوى الكبرى والرئيسية فيه، موحدًا في الاصطفاف إلى جانب إسرائيل، ورفض عملية طوفان الأقصى ووصمها بالإرهاب
الصورة

سياسة

التطورات الميدانية للحرب على قطاع غزة يتابعها "العربي الجديد" أولاً بأول...