خطيئة الحرية

23 يونيو 2015
لوحة للفنان التونسي رؤوف الكراي
+ الخط -
"صباح الخير أيها الحزن"، رواية فرانسواز ساغان الأولى، التي أصدرتها سنة 1954 وهي بالكاد مراهقة لم تتجاوز الثامنة عشر عاماً، وكتبتها تحت وطأة مآسي الخروج من تبعات الحرب، والرغبة في الانفلات الروحي والعاطفي. تحولت هذه العبارة إلى ما يشبه الكليشيه، حين نجلس واضعين خدودنا على أيدينا، متأفّفين مما حولنا، مرتدين لبوس القهر واليأس، وربما التميّز، شبه هاتفين، في صباحاتنا: صباح الخير أيها الحزن.
أما أنا، فإنني أتدرّب منذ سنوات، على عبارة صباحية، أبدأ فيها حياتي. أستمدّ منها القوّة، كما قهوة الصباح، أو حتّى ما يشبه صورة بائعة الحليب في الحكايات اللذيذة، تمنح النهار طعمه، أهتف: صباح الخير أيتها الحرية.
يمكن للحرية أن تكون معادلاً للحزن أيضاً. فالحرية، حسب الوجوديين خاصة، نتيجة الاختيار، وتُفضي إلى المسؤولية. وليست هذه المعادلة دائماً مسبّبة للسعادة، بل قد تتعارض الحرية مع السعادة. ثمّة حريات سريعة وآنية تحقّق السعادة، ولكن الحرية الأهمّ، تلك التي قد يحقّ لنا وصفها، بالمصيرية.
أعيش في فرنسا منذ أكثر من عشر سنوات، ولا أزال أتعلّم تفاصيل يومية لممارستي لحريتي من دون أن أشعر أنني بهذا أنتقص من غيري، أو آخذ ما لا يحقّ لي أخذه. فأنا قادمة من ثقافة تؤنّب الحرية والمزاج الشخصي عادة، وتشجّع على الطاعة والولاء للآخر على حساب الذات وخياراتها التي قد تكون أكثر نضجاً وتفتحاً.
أذكر حين شاركت، في ندوة متلفزة، مع صديقين من الرجال، أحدهما في عمر والدي، كيف انتابني شعور بالذنب بعد انتهاء الحلقة، لأنني "قسوت" على الرجل الأكبر مني في الحوار، وكشفت ضعفاً في حججه. كنت متحمّسة في الحوار، وصادقة مع نفسي. ولأن الحوار كان على الهواء، لم أتمكن من مراجعة رُهاب الحرية.

اقرأ أيضاً: المكنسة الناعمة: حكاية ساحرات سوريّات

اتصلت بابن الرجل، وهو صديق لي أيضاً، لأعتذر كطفلة مذنبة عن قسوتي على أبيه، إلا أن الشاب قال لي: بالعكس لقد منح ذلك، الحوار الكثير من الحيوية.
استطعت عبر سنوات عيشي في فرنسا، أن أتمرّن على ممارسة الحرية من دون إحساس بالذنب. وأن أختلف بالرأي مع شخص، لا معه.
حين تعرّضت، في بداية قدومي إلى هذه البلاد، إلى رأي مستفّز من سيدة لها "سلطة"، كما تصوّرت على حياتي العائلية، دافعت عن رأيي بانفعال. ثمّ نظرت حولي، لأرى أن الآخرين لم ينزعجوا، بل وقف كثير منهم في صفّي، أعني، في صفّ رأيي.
لا أزال حتّى اليوم، أتمرّن على ممارسة حريتي على أنها ملكيتي لا ملكية المجموع. وأن ممارستها، حين تتعارض مع رغبة الآخر، ليست تحديّاً له.
أعود لبرهة إلى النصّ الديني، الذي لا نزال نحمل آثاره، عبر سلوك حواء المُؤثَّم مراراً: المعرفة.
حين نخرج من الحديث عن حرية الفرد، إلى حريات المجموع، نلاحظ أن الشعوب العربية، وبعد معاناة طويلة مع الاستعمار الأجنبي، ثم صراعات مع الإيديولوجيات المتعاقبة التي قمعتها، وصولاً إلى أهم مرحلة في تطور الوعي الشعبي: ثورات الربيع العربي، التي كانت فرصة استثنائية للانقلاب على الاستبداد السياسي، قررت، هذه الشعوب، الذهاب إلى الثورات الفكرية لاحقاً، بعد التخلّص من الاستبداد السياسي الذي يعيق أية مشاريع ثورية أخرى، في الثقافة والمجتمع، حيث يجيّر كلّ ثورة أو تقدّم، لصالحه، ويتبوأ قمة الثورة، كأب حامٍ لأي عملية تقدم فكري في البلاد التي يسيطر عليها.
لكن هذه الفرصة تبخّرت، وكأن العقاب على الحرية لا يزال مرتبطاً بسوء طالع، ويمكن ردّه بسذاجة إلى الخطاب المرائي: "بدكم حرية". جاء الردّ الأوّل المتهكم، واستمرّ حتى اليوم، عبر تذنيب الشعوب. إلا أن أهم النخب العربية لا تزال تحمّل هبّة الشعوب، نتائج التطرف الديني الدموي، ناسيةً دور الديكتاتور الذي عاقب الشعب المنتفض: "بدك حرية؟ خود داعش".
هكذا كان العقاب الميتافيزيقي. وهكذا لا نزال نحمل خطيئة الحرية، أفراداً وشعوباً. بدلاً من التمسّك بحقنا في التعبير، صرنا نتكوم على أنفسنا ونراجع أخطائنا: هل أخطأنا حين خرجنا وصدحت حناجر الشباب الثائر: حرية؟. هل أخطأت حواء حين دفعت آدم لالتهام تفاحة المعرفة؟. أكان علينا الاكتفاء بثوب الرضا، والسير "الحيط الحيط وطلب السترة"، كما تنصحنا الأمثال الشعبية، للوصول إلى الجنّة الموعودة: تأكل وتشرب وتنام، أمّا المعتقلات والحريات، فليست ذات قيمة.
هل يمكننا اليوم، فصل حرياتنا، عن توهم الخطأ. خطأ أن تقول: لا أتفق معك في الرأي لكنني أحترمك، وأستطيع أن أحبك أيضاً، كما نكرر بكليشيه لا نطبقها: الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية، وقد طار الود، وحلّت الكراهية والعنف والذبح، بسبب الاختلاف في الرأي.
المساهمون