خطاب الجنس أم الطبقة؟

26 ديسمبر 2018
جان ميشال باسكيا/ فرنسا
+ الخط -

تتطفّل عليّ امرأة جالسة بجانبي في الباص. تسألني: "عمّاذا تكتب؟"، فأجيب بصراحة بريئة: "أكتب عن الجنس". فوجئت، تقزّزت، واستنكرت الموضوع الذي أشغل به فكري، كما استخسرت الوقت الذي أضيّعه في الاهتمام بهذه "التفاهات" على حد قولها. رد فعل كهذا، في براءته المتناهية، يحيل إلى واقع يمثّل الكبت الجنسي أحد مكوّناته.

كان ميشيل فوكو قد فصل بين الجنس Le sexe والجنسانية La sexualité. فالأوّل بيولوجيا، أي ما يميّز الذكر عن الأنثى من خصائص بيولوجية وفيزيولوجية. بينما الجنسانية سوسيولوجيا، أي ما يميّز هذا عن ذاك داخل المجتمع، وما تفضي إليه هذه العلاقة من مفاهيم كالدور الجندري، والهوية الاجتماعية، والتوجه الجنسي.

يعود فوكو إلى عصر انبلاج الأنوار من ظلام أوروبا الدامس، في نهاية العصور الوسطى. من سمات تلك المرحلة تدوين الجنسانية وتصنيفها، في نفس الوقت الذي بدأت فيه الإصلاحات الكنسية وظهرت الكتابات التنويرية السياسية والفكرية لتدفع بواقع جديد لأوروبا. واقع لم تتغيّر داخله السلطة في ذاتها، بل غيّرت شكلها. وبالتالي، فالنقلة التنويرية الأوروبية أتت كي تفسح للسلطة مجال تعبير أوسع، وتشق لها سبلاً أخرى في سعيها الحثيث للهيمنة المطلقة، بما فيها معرفة ذواتنا عبر الجنسانية.

لقد كانت المجتمعات الإقطاعية الأوروبية امتداداً لجسد الحاكم، فكان الجسد خلالها خاضعاً لتحكمه المطلق. ومع تبلور الرأسمالية تخفّفت قبضة الحاكم على الأجساد، ولكن هذه الأخيرة بقيت امتداداً لجسد رب الأسرة، وكانت الأسرة حينها مستودع الجنسانية، وهي في النهاية وِحدَة حليفة للنظام القائم.

كلما استعرضتُ طرح فوكو هذا تساءلت: "على أي أساس تتجدّد الهيمنة على الأجساد؟" في كل مرة، يبدو أن ما يسمّيه فوكو بـ"شبكة السلطة" هو ما يحدّد ذلك، كما أنه لا يمكن أن ننسى دور الإمكانيات المادية والقدرة على الاستقلالية، أي أن الأجساد تترتّب طبقياً.

في كورنيش مدينة أغادير، وهي منطقة سياحية يمكن أن نعاين فيها الفوارق السلوكية بين الأجساد من منطلق انتماءاتها الطبقية والوظيفية الاقتصادية؛ بين أجساد سيّاح غربيّين (متحرّرين) وأجساد مواطنين من طبقات وسطى ودنيا (محافظين)، وأجساد تعتاش على الهامش (متعة الاصطياف) تبيع وجودها لراحة أجساد الفئات الأخرى مقابل المال. المثير أن الفئات الثلاثة لا تختلط ولا تلتقي إلا وظيفياً، ولكل واحدة منها مجالها الخاص وسلوكها الخاص ودورها الخاص بالرغم من كونها تشترك في مجال واحد.

قد يقول البعض أن كلاً من هذه الفئات تتصرّف حسب منظومتها الثقافية والرمزية القبلية، غير أن القضية تمتد إلى ما هو أعمق، أي محددات الوجود داخل المشهد، المشهد ذاته الذي يتحدّد قبلياً وبشروط موضوعية مادية، وبالتالي تحدّد هذه الشروط تعبيرَ المنظومات الثقافية والرمزية القبلية للأجساد.

هنا لا تكون الأجساد إلا حسب شروط وجودها المادي، تتصرّف حسب الإمكانات، وحسب المنفعة التي يمكن تحصيلها من موقعها الطبقي داخل شبكة العلائق المادية داخل مكوّنات المشهد. وعلى غرار ذلك، وبشكل عام، يكون الشرط المادي والتموقع الطبقي أساس سلوكيات الأجساد، فالأصل أن يكون مقصد ميشيل فوكو بشبكة السلطة، شبكة العلاقات الاقتصادية التي تربط مكوّنات الواقع، والتي تحدّد بشكل جدلي وعي وقيم ومفاهيم المجتمعات. وبالتالي يكون، ما يدعوه فوكو، خطاب الصمت تجاه الجنس داخل الأسرة الحديثة، خطاب الطبقة تجاه مفهوم الجنسانية، يتغيّر بتغيّرها وبتغيّر أنماط الإنتاج بفعل التناقضات التي تحكم التاريخ. ويكون الجنس بذلك قضيّة طبقية.


* كاتب من المغرب

المساهمون