خسرت النهضة وفازت تونس

29 أكتوبر 2014
+ الخط -

عندما يشاهد المرء التونسيين واقفين في طوابير طويلة في انتظار دورهم أمام صندوق الاقتراع، لانتخاب من يحكم البلاد، تشعر أن حياة البوعزيزي لم تذهب سدى، وأن أحلام الثوار لم تنكسر على صخرة الثورة المضادة، وأن تضحيات المناضلين من أجل الحرية والكرامة والديمقراطية بدأت تزهر في بلاد الزيتون، وأن تونس هي شجرة النجاح التي تخفي غابة الإخفاق العربي، وأن الشعب كلمة يمكن أن تخرج من كتب المجاز إلى أرض الحقيقة.

نجحت تونس في إنقاذ ثورتها التي كانت مستهدفةً من قوى كثيرة في الداخل والخارج، وذهاب 62% من الناخبين إلى صناديق الاقتراع لانتخاب برلمان دليل قوي على أن الشعب مازال متمسكاً بثورته، وأن الإرهاب لم يرعبه، وأن مهد الربيع العربي على طريق تحول ديمقراطي عميق، بعد أن خاض تجربتين انتخابيتين ناجحتين. هل سمعتم، من قبل، في كل هذا (التابوت) العربي، زعيماً للأغلبية يقر بهزيمته، ويرفع سماعة الهاتف، ويهنئ زعيم الحزب الخصم على الفوز في الانتخابات؟ فعلها الشيخ راشد الغنوشي مع الباجي قايد السبسي.
خسرت "النهضة" المرتبة الأولى في ثاني استحقاق سياسي بعد الثورة، وفاز حزب نداء تونس بها، لكن تونس هي التي كسبت، وتجربتها الديمقراطية التي خرجت من عنق زجاجة كانت تريد أن تخنقها، وهي في المهد.  
عندما اتجه المجلس التأسيسي إلى التصويت على قانون العزل السياسي الذي يحرم أتباع النظام السابق من المشاركة السياسية، رفض العقلاء في تونس، وفي مقدمتهم راشد الغنوشي، الذهاب في هذا الطريق الذي قاد ليبيا والعراق إلى ما حرب أهلية مدمرة، وقالت تونس (عفا الله عما سلف)، ولا إقصاء لأحد ولو كان من أزلام نظام بن علي. هذه هي الديمقراطية تقبل بوجود حتى خصومها، وهذا هو الفرق بينها وبين الديكتاتورية التي لا تقبل بأحد شريكاً في الحكم.
خسر حزب النهضة المرتبة الأولى في الانتخابات، لكن تونس نجحت في الوصول إلى توافق تاريخي على قواعد اللعب الديمقراطي، والخسارة جاءت لاعتبارات ثلاثة فيما أظن. أولها أن الحزب أمضى مع حلفائه أكثر من سنتين في الحكم، وسبق أن فاز بالمرتبة الأولى في انتخابات 2011. صوت له التونسيون، بعد الثورة، وكانت انتظارات الشعب كبيرة وإمكانات الحكومة قليلة وجبهة الخصوم عريضة. إذن، طبيعي أن يعاقب الناخبون الحزب المسؤول عن إدارة المرحلة الماضية، وإن كانت له مزايا سياسية كثيرة، فالناس يصوتون بجيوبهم، وليس بعقولهم فقط.
ثانياً، الحزب الذي انتزع المرتبة الأولى في الانتخابات (نداء تونس) كان في المعارضة، وطبيعي أن يستفيد من التصويت العقابي ضد الحزب الحاكم، ولو أنه خليط من بقايا نظام بن علي على اتباع النهج البورقيبي ورجال الأعمال الخائفين على امتيازاتهم. ومن يريد عقاب شخص لا يدقق في من سيستفيد من العقوبة، علاوة على هذا فإن حزب نداء تونس وظّف آلات انتخابية مجربة ومدربة، وأنها خضعت لقواعد اللعب الديمقراطي هذا لا يعني أنها تخلت عن كل وسائل استمالة الناخب المشروعة وغير المشروعة.
ثالثاً، حزب النهضة على طريق التحول التدريجي، من حزب إسلامي أصولي منغلق، إلى حزب يميني محافظ منفتح على المجتمع. يدافع عن الثقافة الإسلامية، لكنه يقبل، في الآن نفسه، قواعد اللعبة الديمقراطية، ويحترم حرية العقيدة. هو في مرحلة انتقالية، وهذا له كلفة سياسية وانتخابية، فالظاهر أن "النهضة" خسرت في الانتخابات جزءاً من جمهورها التقليدي الذي يصوّت لها بدوافع دينية صرفة، لكنها لم تستفد بعد من انفتاحها واعتدالها. أمامها جمهور جديد، لم يستوعب بعد هذا التحول، وهو إما لم يشارك في الانتخابات، أو فضل التصويت للأحزاب الأخرى، حتى وإن كانت تنتمي إلى العهد السابق.    

 

 

A0A366A1-882C-4079-9BED-8224F52CAE91
توفيق بوعشرين

كاتب وصحفي مغربي، رئيس تحرير جريدة "أخبار اليوم" المغربية.