21 نوفمبر 2024
خريطة طريق المبدع
هل يحتاج المبدع إلى خريطة طريق، تدله على موضوعه، وتقوده نحو الطريق إليه؟ هل توجد مثل هذه الخريطة، حقاً، في واقع الكتابة والأدب والفن، بل والإبداع، أياً كان نوعه وجنسه؟ هل على المبدع أن يضع يده على خده، بانتظار ما تجود به عليه نظريات النقد واقتراحات النقاد، لكي يمسك بالورقة والقلم، أو يضع أصابعه على لوحة المفاتيح، ويكتب من وحي تلك النظريات، واستجابة لتلك الاقتراحات؟ هل يمكن اعتبار البحث عن موضوعات جاهزة للكتابة، وتقديمها للكاتب، كي يكتب فيها من مهمات الناقد؟
وبغض النظر عن نوع ومستوى هذه الموضوعات الجاهزة والمقترحة من الآخرين، ومنهم النقاد، هل يليق بالمبدع أن يجري قلمه فيها بدلاً من اجتراح المبتكر وغير المطروق والمألوف، حتى على صعيد التفكير وحسب؟ هل يمكن رسم ملامح العلاقة بين المبدع والنقاد بهذه التراتبية المتبادلة؟ أي أن يأتي الناقد، أولاً، باعتباره الذي فكّر في الموضوع، وبلور الفكرة وقدمها جاهزة للمبدع الذي لن يكون عليه، في هذه الحالة، إن كان روائيّاً، مثلاً، إلا أن يحيط الفكرة بمادة اللغة وحدها، فيكون ثانياً قبل أن يقدمها للطرف الثالث؛ القراء؟ وكيف يمكن للناقد، في هذه الحالة، أن ينظر للرواية التي بذر هو بذرتها الأولية، إذن؟
حسناً، كيف يمكننا النظر، في هذه الحالة، إلى الناقد بهذه الصفة وحدها؟ لماذا لا يكون هو المبدع الحقيقي، إذن، من قبل ومن بعد؟
في ندوة ضمن مهرجان جائزة كتارا للرواية العربية، في الدوحة، "الرواية ووعي التجريب"، أثار الناقد سعيد يقطين تساؤلات حول طبيعة دور الناقد وعلاقته بالروائي، من دون أن تكون الندوة، وفقاً لعنوانها، معنية بذلك، ومن دون أن يقصد الناقد كما أظن. وتناول في الندوة التي شاركه منصتها معجب العدواني أكثر من قضية تتماس وإشكاليات الرواية العربية المعاصرة، لكنه خصص اهتمامه ووقته للحديث عن التطور التكنولوجي وأثره على الرواية، وانتهى إلى مقولة خطيرة، أن سردنا العربي لا يمكن أن يتطور من دون الاستفادة من التطور التكنولوجي. وهكذا قدم يقطين نصيحته الجاهزة للروائيين الشباب والمخضرمين؛ اكتبوا عن موضوع التكنولوجيا والتطور الرقمي والمعلوماتي في رواياتكم، واتخذوا من هذا كله مادة للكتابة، وليس وسيلة لنشر هذه الكتابة وحسب، وإلا فإن الرواية العربية لن تتقدم!
ورداً على من استغرب هذه النصيحة التي تسلب من المبدع حقه الأصيل في طرق ما يشاء، واتخاذ ما يشاء من موضوعات للكتابة، في سبيل تحدي الراهن والسائد، وحلماً بالتقدم إلى الأمام، قال الناقد المتحمس لرؤيته، قدر حماسه للتكنولوجيا، إنه يتفهم الرفض، باعتباره رد فعل طبيعي لكل دعوة جديدة، قبل الاعتياد عليها.
كنتُ من المستغربين المعترضين على نصيحة يقطين، وبعد رده السريع، فإني معترضة مجدداً على فهمه الرفض، بل أراه متناقضاً، فما يحذر منه هنا يقع فيه، وما يشجّع عليه يبتعد عنه، فالتكنولوجيا التي يراها المطية المناسبة لحركة الرواية الجديدة نحو الأمام سرعان ما يعتادها الروائي والجمهور، عندما تفقد دهشتها الأولية، وستكون من مواد الرواية المستهلكة أيضاً.
ولهذا، لا ينبغي على أحد تشجيع المبدع على القبول بالموضوعات المعلبة المقترحة من الآخرين، ولا وضع سقف معين، أو خط مرئي، أمامه، مهما كان السقف عالياً، ومهما كان الخط بعيداً. فمتى ما استكان المبدع لخريطة الطريق المرسومة أمامه، تلاشت حالة القلق الحتمي التي يشعر بها، وهو بصدد ممارسة الإبداع، واستمرأ الطريقة الأسهل للكتابة؛ التفريغ المتقن للأفكار الجاهزة على الورق. وفي هذه الحالة، ليذهب التجريب إلى الجحيم، حتى لو تخلى عن مكانته الأولى للناقد في العملية الإبداعية بكل أطرافها كحالة تكاملية، واكتفى بالمرتبة الثانية. مخالفاً بذلك "الحقيقة" البسيطة التي يعمل على تكريسها كل المبدعين، والتي عبر عنها معجب العدواني، في الندوة نفسها، بأربع كلمات: المبدع أولاً وكلنا وراءه.