خرافة اسمها الحياد الإعلامي

21 يوليو 2016
+ الخط -
آن الأوان لنواجه "الحقيقة" الإعلامية المعاصرة؛ لا وجود لإعلامٍ محايدٍ وغير منحاز على الإطلاق. ولعلنا نحلم حلماً عصياً على التحقق، عندما يتعلق الأمر بقراءة صحيفةٍ أو مشاهدة قناة تلفزيونية غير منحازة (!). ولحسن الحظ، على الرغم من أن لا مكان للحسن هنا، أن هذه الحقيقة المرّة لا يقتصر وجودها على إعلامنا في الوطن العربي، كما قد يبدو لبعضهم، بل هو الواقع في العالم كله. وأنا الإعلامية، أعمل في الصحافة المكتوبة منذ أزيد من ربع قرن تقريبا، أستطيع أن أؤكد تماماً أنه لا توجد وسيلة إعلامية واحدة محايدة حياداً تاماً، لا في الشرق ولا في الغرب. والحياد الإعلامي الوحيد الذي يمكننا أن نصادفه تاماً، وكما نشتهي موجود فقط في كتب الإعلام ومعاهده وكلياته في الجامعات، حيث يدسّ الأساتذة في أفهام طلابهم خرافةً اسمها الحياد.

لكن هذا لا يعني قتل الحلم، في حين نستطيع ترشيده وفق ما هو متاح، أو يمكن أن يتاح في ظل الأوضاع الإعلامية والحريات المتاحة فعلاً. نريد إعلاماً صادقاً على الأقل، لا يقول كل الحقيقة، ما دام غير قادر على ذلك، لكنه لا يغيبها ولو جزئياً، ولا يشوهها ولا يزيفها، ولا يقنعنا أنه يقولها مكتملةً، فهل هذا مستحيل أيضا؟

في الأحداث التركية التي بدأت بخبر محاولة الانقلاب العسكري على النظام الحاكم في تركيا وما تبعه من أحداث جرت خلال ساعات، وتابعناها ليل الجمعة الماضي، على الشاشات التلفزيونية المختلفة والمواقع الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي التابعة للصحف والقنوات أو المستقلة، أطلت قضية الحياد الإعلامي مجدّداً، ولنكتشف، مرة أخرى، أنه خرافة، وأننا لا يمكن أن نجد وسيلةً إعلاميةً واحدةً تقول الحقيقة كل الحقيقة، ولا شيء غير الحقيقة. لكن هذا لا يعني أن جميع هذه الوسائل الإعلامية تساوت في درجة انحيازها. ومن هنا، يمكن الحكم عليها، وعلى مدى مصداقيتها تجاه المشاهدين والقراء بشكل عام. ففي وقتٍ تابعنا خبر الانقلاب، في بعض القنوات التلفزيونية العربية والعالمية، بشكل معقول، ووفقا لمصداقيةٍ لا بأس بها نسبياً، كانت هناك فضائيات وخدمات إخبارية وصحف قد انكشفت بطريقةٍ مبالغ فيها، ذلك أنها لم تكتف بنقل جزءٍ من الحقيقة، ولم تكتف بنقل الأحداث من وجهة نظرها هي من الزاوية التي تناسبها، وتتفق مع رسالتها وسياساتها العامة وأهدافها القريبة والبعيدة، بل تجاوزت ذلك كله لتزبيف الحقيقة، باختلاق أحداثٍ لم تقع أساسا، وتصوير مشاهد غير موجودة، وشرح صور بما يناقض معناها (!). فكانت بعض الفضائيات، مثلاً، تعلق على الهواء مباشرةً، على مشاهد من أنقرة واسطنبول، بدت فيها جماهير حاشدة من الشعب التركي، وهي تتعامل بعنفٍ وسخريةٍ مع أفراد من الجيش المنقلب في الشوارع، رفضاً للانقلاب، وتأييداً للشرعية القائمة، بأنها ترحيب من هذه الجماهير بالجيش، وبالتالي مؤيدة للانقلاب.

وكان منظر المذيعين والمذيعات في استوديوهات هذه الفضائيات مضحكاً، وهم يحاولون إقناع مشاهديهم بعكس ما يراه هؤلاء المشاهدون بأعينهم، ويسمعونه بآذانهم. وكانت النتيجة المباشرة أن هذا النوع من التحيز الغبي والمكشوف جدا أدى إلى نتيجة معاكسة تماما، كما أنه أفقد هذه القنوات جزءاً كبيراً من مشاهديها الذين لن يعودوا إلى تصديقها لاحقاً، حتى في أخبارها الصادقة فعلا. وبالتالي، ما تخسره هذه الفضائيات ذات الانحياز الكامل والمكشوف والمثير لحنق الجماهير يتجاوز السمعة إلى سوق الإعلان لاحقاً، فلا يمكن لمعلنٍ أن يعلن عن سلعته عبر وسيلةٍ انكشفت أمام المشاهدين بشكل مفضوح، لأن مثل ذلك الانكشاف لا يدلّ على انحيازها وحسب، ما دامت كل الوسائل الإعلامية الأخرى منحازةً بشكل أو بآخر، بل يدل أيضاً على عدم حرفيتها في إيصال رسالتها المنحازة أيضاً.

 

CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.