خديجة حباشنة .. أفلام فلسطين والوثيقة المؤنسنة
بذلت الباحثة والكاتبة والناشطة والمخرجة، خديجة حباشنة، في كتابها "فرسان السينما .. سيرة وحدة أفلام فلسطين (الأهلية للنشر والتوزيع، عمّان، 2019) جهدا خارقا دام خمس سنوات، عملت خلالها، بكل إخلاص وشغف، على توثيق الأحداث بأقصى درجات الأمانة للتاريخ وللحقيقة، فسافرت إلى عواصم عدة، تبحث بين الوثائق العتيقة، وتجمع الشهادات الشخصية، وتجري مقابلات حية مع من تبقوا من صنّاع التجربة وشهودها، لتسليط مزيد من الضوء على الشخصيات الراحلة، صاحبة الحلم والأمل، ولم تأخذ حقها من الاعتناء والتكريم الذي تستحق. وأخذت حباشنة على عاتقها، وبجهد فردي، مسؤولية حفظ إرث هؤلاء الأبطال الذين حفروا في الصخر، وتحدّوا الصعوبات، من أجل تأسيس وحدة أفلام فلسطين. ولتوثق حكاية حلم السينما الفلسطينية في زمن الكفاح المسلح.
جمع حلم الانتصار الثلاثي المناضل، سلافة جاد الله وهاني جوهرية ومصطفى أبو علي. أبطال حقيقيون بذلوا أعمارهم فداءً لقضيةٍ آمنوا بعدالتها، وكرّسوا كل خبراتهم في توثيق تفاصيلها. وكان "الحق الفلسطيني" من إخراج مصطفى أبو علي أول فيلمٍ يعمل على تقديم صورة الفلسطيني، ويوصل صوته إلى المحافل الدولية، المضلّلة أحيانا، والمتواطئة أحيانا كثيرة، تبع ذلك الفيلم منجز سينمائي إبداعي كبير من أفلام قصيرة وتسجيلية ووثائقية وروائية. نقل بعين الكاميرا معاناة الشعب الفلسطيني في مواجهة قوة غاشمة، سطت على الأرض، وحاولت الاستيلاء على التاريخ وتزويره، بقلب الحقائق، وتقديم الفدائي المدافع عن وطنه إرهابيا معاديا للسامية، فيما الصهيوني مسكين مضطهد في العالم يحاول أن يبني وطنا على أرض بلا شعب، بل ذهب الصهاينة بعيدا، حين قالت رئيسة وزراء دولة الاحتلال، غولدا مائير، إنه لا وجود للشعب الفلسطيني. التقط أبو علي المقولة الجائرة، وحولها إلى فيلم، مسجلا عملية الإبادة التي تعرّض لها مخيم النبطية في جنوب لبنان في العام 1974، مفنّدا من خلال الصورة رواية الصهيونية الكاذبة، مصرّا على الحق الفلسطيني، محتفلا بالثورة باعتبارها الوسيلة الوحيدة لاسترداد ما ضاع.
تهدي خديجة الكتاب أولا إلى روح سلافة جاد الله، الفارسة الأولى، أول مصورة سينمائية عربية. تلقت رصاصة في رأسها في أثناء تغطية وقائع معركة الكرامة. وعانت طويلا في رحلة العلاج، فقد أصيبت بالشلل النصفي، ثم عادت بعد سنوات إلى العمل السينمائي، قبل أن يتوفاها الله في نابلس العام 2002. وعلى الرغم من المساحة الكبيرة للمادة الوثائقية الأرشيفية في كتابها، إلا أن الكاتبة تنقلت، بأسلوبٍ رشيق ممتع وشائق، بين السير الذاتية لكل من سلافة وهاني ومصطفى وآخرين، مسلطةً الضوء على الجانب الإنساني والهم النضالي، راصدةً، من خلال سرد حكاية وحدة السينما، أحداثا وتحولات سياسية كبرى عصفت بالمنطقة، مثل اجتياح بيروت والحرب الأهلية في لبنان.
ركّز الكتاب على دوْر السينما ذراعا نضاليا، يسند المقاومة العسكرية. تنقّل بين الأزمنة والأمكنة ببراعة، ومن دون تكلف. وقد لمس الناقد فيصل درّاج في مقدمته التي أضاءت بشكل عميق على محتوى الكتاب تواضع كاتبته الباحثة خديجة حباشنة الذي يقترب من إنكار الذات، وهي التي كانت شريكة فاعلة وشاهدة عيان على معظم الأحداث التي سردتها. كما احتفل بجهدها في إنجاز ما وصفه بالعمل الثقافي الفني الأخلاقي. وكان درّاج محقّا، لأن المقرّبين من خديجة حباشنة يدركون مدى إخلاصها وتفانيها في خدمة القضية الفلسطينية التي اعتنقتها منذ مطلع شبابها. انخرطت فيها بكل ما أوتيت من حسٍّ بالعدالة ورفض للظلم وانتصار للحق. كتبت خديجة إنها شرعت في عملها (البحثي التوثيقي الإبداعي)، كي تروي قصة مجموعةٍ سينمائيةٍ واستثنائيةٍ وفريدةٍ في رياديتها، كأول وحدة متخصصة ترافق حركة تحرّر وطني، بعد أن تعرّضت هذه الوحدة الثورية للإهمال والتهميش.
"فرسان السينما .." كتاب مختلف، يضم جوانب كثيرة غير معروفة في تاريخ الثورة الفلسطينية، تم إنجازه بكثير من الحنين والحب والوفاء. كُتب بلغة بسيطة عميقة، بحسٍّ روائي وقصصي، لا يخلو من إثارة وتشويق. يستحق الاقتناء، لثراء محتواه الذي ينبغي أن يدرّس في معاهد السينما، وأن يطّلع الجميع على وثيقة تاريخية مؤنسنة في غاية الأهمية، خصوصا من الشباب والشابات المبدعين، المشتغلين بالفن الجاد والملتزم بقضايا الشعوب المقهورة.