خالد الضاهر.. الطوائف بلسان هوامشها

19 فبراير 2015

خالد الضاهر .. كلمة عابرة في قاموس غير معلن

+ الخط -

لم يشذّ النائب اللبناني، خالد الضاهر، عن تبادلية التكاره الخفية التي تحكم علاقة الطوائف اللبنانية ببعضها بعضاً. تصريحه حول نزع صلبان المسيحيين وتماثيلهم رداً على محاولة نزع نصب كلمة الله عند مدخل مدينة طرابلس، تبدي جزءاً بسيطاً من اللاوعي المتراكم الذي تختزنه كل طائفة تجاه الأخرى. هفوة الضاهر أقرب إلى الكلمة الهاربة من قاموس غير معلن، تحتكم الطوائف إليه، لتوصيف بعضها بعضاً، وبناء تصورات وأحكام متضادة.

يستند هذا القاموس لتثبيت مفرداته على الشفوي المنفلت، مستفيداً من خليط الخرافة والشائعة والقصص المتناقلة والتجارب السلبية، ليوسع الرواية حول الآخر، ويجعلها متناً تعريفياً صلباً للتعاطي معه. وما الحرب الأهلية، بمذابحها وخطوط تماسها، سوى مستودع رمزي يجري العودة إليه، كلما نقصت مفردات القاموس وضعفت بلاغته.

وغالباً ما يخضع الرسمي المزيف لسطوة الشفوي العفوي، خضوعاً تواطُئِيّاً، مستتراً وراء أفكار ساذجة عن حوار الأديان والعيش المشترك والوحدة الوطنية. ما ينطق به السياسيون، يومياً، هو جانب من هذا الرسمي، لكن خطاباً آخر بمفردات مختلفة يسري في لاوعيهم، يحاكي بنية الشفوي وجوهريتها الصارمة حيال الخصوم.

تكمن خطيئة الضاهر في تسلله بين الخطابين، من دون أن ينتبه إلى التصدع الذي أحدثه، مجسّراً المسافة بين لغة الصفقات والتسويات والتحالفات اليومية ولغة الجماعة التي تحدد ذاتها بالضد من الآخرين. وقد ضاعف هذه الخطيئة، حين تمرد على المركز، وأراد أن يكون صانعاً لغة الجماعة، ومذيلاً الحدود بين المعلن والخفي في خطابها، فجرى التنصل من كلامه، وربما منه شخصياً.

داخل كل طائفة، ثمة مركز وعدد من الهوامش. يصنع الأول المفردات ويعلّبها، فيما الهوامش الطرفية تعمل على تسويق هذه المفردات، وإقناع الرأي العام بصوابيتها. العلاقة بين الجانبين وظائفية محضة، لكن قدرتها على إمساك المزاج الجماعاتي والتحكم به تبقى موضع تساؤل، وتفتح شهية الجانب الأضعف على توسيع نفوذه.

فقد يكون المركز وارثاً جزءاً من وجدان الطائفة، وليس صانعاً له، نتيجة تطورات سياسية محددة. كما في حالة تيار المستقبل الذي ينتمي إليه الضاهر، وهذا ما يترك مجالاً للهوامش، لكي تنافس على مغازلة الأجزاء الباقية، وكسب ودها. يبدو ذلك نقيضاً لحال النائب، وليد جنبلاط ،الذي يتحكم بوجدان طائفته (الدرزية)، ويصوغ توجهاتها. والأخير لم يدعُ إلى إزالة التماثيل المسيحية على طريقة الضاهر، بل فعل أفظع من ذلك، حين وصف الموارنة، في أحد جلساته المسرّبة، بـ"الجنس العاطل".

مركزية جنبلاط داخل طائفته جنّبته العواقب التي لحقت بالضاهر، فبدا ما قاله بعضاً من لاوعي الجماعة ضد خصومها التاريخيين، وليس خروجاً مجانياً عن خطابها المعلن. وحده المركز يعرف كيف يوزع اللغة المتراكمة بين العلني والخفي، وما يفلت منه ليس تمرداً صبيانياً على طريقة النائب ــ الهامش، وإنما موظف بذكاء ضمن مصالح المركز المتماهية قسراً مع مصالح الطائفة.

والتمييز ضروري هنا، بين الأكثرية التي يصعب حصر وجدانها في مواقف محددة، مما يترك فرصاً للهوامش، لكي تعبث بين الرسمي والشفوي، وبين الأقلية المستسلمة لقدر المركز، حيث لا أثر يذكر للمحاولات الهامشية. يمسك جنبلاط لغة الدروز، ويحتكر بلاغتهم بمختلف مستوياتها، فيما الضاهر يلعب في المساحة التي أهملها تيار المستقبل، مستثمراً الخطاب الشفوي الذي يقوى في الأرياف، حيث يمثل النائب اللبناني كتلة وازنة من الناخبين، لعباً يميل إلى استدراج مزيد من العصبية والتطرف والكراهية، أي تحرير هذه النوازع من قبضة المركز، وتركها نهباً للاستثمار الهامشي.

الضاهر، في استراتيجيته هذه، لا ينتقم، من الطائفة المقابلة، بل من مركزية طائفته نفسها، ويسعى إلى الخروج عن انضباطيتها الصارمة. أراد أن ينقي خطاب الجماعة من رسميته المصطنعة، ويجعله في متناول الفوضى الشفوية، مغازلاً بذلك شرائح واسعة من الطائفة السنية، لم تعد تقتنع بزجلية الاعتدال التي يتبناها تيار المستقبل، في ظل هيمنة حزب الله على مفاصل القرار في البلد.

والحال، فإن المصالحة التي سعى النائب العكاري إلى عقدها بين باطنية لغة الجماعة وعلنيتها لا تهدد تيار المستقبل فحسب، بل تهدد جميع الطوائف اللبنانية التي تحترف الرقص بين لغتين، تحتفظ بالأولى لذاتها، كي تؤبلس الآخر، وتسوق الثانية رسمياً، لكي تحقق مصالحها.

ويبقى المركز بتمثلاته الزعاماتية ضابط الإيقاع الذي يؤلف العلاقة بين اللغتين. ما فعله خالد الضاهر كان خروجاً عن الإيقاع، وليس عن الخطاب المتأرجح بين هاتين اللغتين.

8BBD9EC4-AC04-46CB-9A15-981E319C4EE2
إيلي عبدو

كاتب وشاعر سوري مقيم في بيروت. نشر مقالات في عدة صحف ودوريات عربية، وتقارير وتحقيقات تتابع تطورات الأوضاع السورية الراهنة. وأصدر ديوانه الشعري "كابتسامة بطيئة مثلاً".