تصل الصور من بيروت: أشخاص مدمَّون، شوارع مدمّرة، صراخ وبكاء، أصوات سيارات إسعاف، غبارٌ يملأ المدينة، ودخان برتقالي فوقها… حدث انفجار هائل في العاصمة اللبنانية. يوم الرابع من آب/ أغسطس الماضي، هرع المصورون والصحافيون إلى المرفأ، وشوارع بيروت المدمرة، ومستشفياتها. على الفور، التقطوا الصور وبدأوا ببثّ الفيديوهات (جانب كبير من التغطية قام به مواطنون عبر حساباتهم على مواقع التواصل). ركض بعضهم، رغم إصابته ودمار منزله، ليقوم بعمله في التغطية. "يجب أن يعرف الجميع ما حصل"، عبارةٌ تحرِّك المراسلين وتدفعهم إلى محاولة معرفة ما يجري. تدفع غريزة الاستمرار في التغطية الإعلاميين، فينحون صدمتهم جانباً. لكنّ هذه الصورة لم تكن سوى جزء من المشهد. فخارج الكادر، يختنق صحافيون بمشاهد المأساة، ووطأتها، وصدمتها، في زحمة الأحداث وفوضى تغطيتها، وبالتضييق عليهم خلال عملهم وسط كل هذا الخراب. هذا طبعاً، بعيداً عن السياسات التحريريّة، والأداء المباشر الرديء الذي يجعل من الضحايا "سبقاً" لبعض الإعلاميين ومؤسساتهم، وهو ما تكرّس مع مرور على الانفجار.
تأثّر الصحافيون في لبنان بالانفجار، حالهم كحال جميع المواطنين. كان بعضهم في أماكن عملهم، وآخرون يقومون بالتغطية الميدانية، وغيرهم في منازلهم. تعرّض صحافيون لإصابات، كما طاولهم الدمار في بيروت. وكحال كلّ من عاش المأساة، أصيبوا باضطراب ما بعد الصدمة. كان عليهم أن يتابعوا عملهم، وأن ينقلوا مشاهد لا تقلّ وطأتها عن وطأة الانفجار نفسه.
في منزله الكائن في منطقة مار مخايل المواجهة للمرفأ، كان مصور "العربي الجديد" في بيروت حسين بيضون، عندما سمع أصوات مفرقعات، فخرج ليتفقّد الأوضاع، فبان الدخان المتصاعد من المرفأ (إثر الحريق الذي بدأ داخله). شعر بأنّ انفجاراً يحدث، فحاول الدخول إلى المنزل، عندما قذفته قوّة الانفجار ستّة أمتار للوراء. حين أدرك ما حدث، تفقّد المبنى، فوجد أنّه شبه مدمّر. اصطحب الكاميرا الخاصة به، ونزل إلى الشارع. "كان المشهد جهنّمياً"، يصف لـ"العربي الجديد". رغم إصابته، التقط بيضون صوراً لآثار التفجير الأولى، ظهر فيها المصابون والدمار الهائل. هذه المرة، لم يكن هناك قوى أمنية خلال التغطية، وهو أمر نادر الحدوث في لبنان خلال الفترة الأخيرة. يقول: "للمرة الأولى أتمنى أن يأتي رجل أمنٍ ويقول لي إنّ المنطقة مطوّقة للإغاثة، أو إنّ هذا مسرح جريمة يمنع الاقتراب منه. يحصل هذا دائماً. لكنّه هذه المرة لم يحدث. لم يكن هناك دولة".
كانت ليال جبران، وهي صحافية ومصورة مستقلة، تغطّي الاحتجاجات أمام وزارة الطاقة في منطقة كورنيش النهر القريبة من الكرنتينا (محاذية للمرفأ) يوم الرابع من أغسطس/ آب. تلفّتت صوب المرفأ فيما كانت تتداول مع أصدقائها خبر الحريق. في تلك اللحظة، حصل الانفجار. تقول: "طلع الانفجار بوجهي". عاشت ليال الانفجار وتأثيراته، شاهدته من قرب، ولازمتها صدمته. "حاصرتني السيناريوهات الكثيرة حول ما حصل. دفعتني الصدمة إلى أن أستحمّ تكراراً طوال الليل. ذعرتُ من فكرة أن تكون قد أصابتنا مادة ما". عادت جبران للتغطية يوم الثامن من أغسطس، تزامناً مع تظاهرات الغضب (التي قُمعت بشراسة). في اليوم التالي، جالت في الأحياء التي طاولها الانفجار، وحينها أيضاً، تملّكتها الصدمة التي لا يزال يرافقها اضطرابها، فتصاب بذعرٍ لأي صوت غريب، وتُبقي على شبابيكها مفتوحة.
رغم مرور شهر على الانفجار، وذهاب سياسيين ومؤسسات إعلامية إلى تنحيته جانباً من أولويات التغطية، واعتماد القمع نهجاً ضدّ المراسلين الميدانيين، لا تزال القصص المأساوية للضحايا تفرض نفسها على الأجندة الإعلامية. يوم الثالث من سبتمبر/أيلول الماضي، رصد فريق تشيلي نبضاتٍ من تحت الأنقاض في مبنى منهار في الجميزة. استغرقت عمليات البحث ثلاثة أيام متواصلة، قبل أن يُعلن الفريق عدم وجود إشارات على ناجين. كانت ليال جبران بين الصحافيين الذين غطّوا عمليات الإنقاذ ورفع الأنقاض بحثاً عن ناجٍ محتمل، وجثة، حسبما أفادت التقارير. كانت الفوضى تعمّ المشهد، فبين صحافيين يهرعون للتصوير، ومواطنين يتجمهرون، وبين جمعية تنسّق الأعمال، وأجهزة أمنية تطوّق المكان، عانى الإعلاميون ولاسيما المصوّرون من تضييق واسع، إضافةً لمنعهم من أداء عملهم من قبل جهات عدة. فيما تشير جبران إلى تعمّد عناصر موجودين على الأرض لبثّ شائعات، توضح أنّ التغطية في الأزمات والكوارث لا تزال تحتاج إلى تدريب لكثير من الإعلاميين الذين يتعاطون مع القصص كسبق صحافي، ولكثير من الأجهزة والمؤسسات التي لا تنظّم عمليّة إبلاغ الرأي العام بالتحديثات حول ملف يحوز على اهتمام الجميع في البلد.
عندما ذهبت الصحافية في جريدة "نداء الوطن"، مريم سيف الدين، إلى منطقة الانفجار، أصيبت بذهول إثر حجم الدمار المهول. تقول: "عندما ترين حجم الدمار في مدينتك وعاصمتك وحياتك وشارعك وذكرياتك والمكان الذي عملتِ فيه، بالتأكيد ستكونين معنيةً به، وستتأثرين به نفسياً، وستعتبرين أنّ مهمّتك هي كشف حجم الإجرام الذي نتج منه كلّ هذا". تقول سيف الدين إنّ أصعب ما عايشته شخصياً كان مشاهد الجرحى أمام المستشفيات: "جلتُ بسرعة وغادرت. لم أستطع الاستمرار أمام وجوه الناس المصابة والمصدومة وغير المدركة بعد لما حدث… لقد كانت صدمةً ممزوجة بالدم". تؤكّد أنّ الانفجار انعكس على الصحافيين، فهم أصيبوا أو تدمّرت مكاتبهم أو بيوتهم أو تضرر أحد أقربائهم أو أصدقائهم. وتقول: "مجرّد وقوع الحدث، قبل تغطيته، انعكس نفسياً على الصحافي، فكيف عندما يعيش قصص الناس المأساوية والضرر المؤلم الذي سبّبه الانفجار، خصوصاً أنّ هذا الانفجار سبّب آلاماً كبيرة؟".
وبينما تشير سيف الدين إلى سيطرة مشاعر الغضب مع كلّ قصة، تتحدث عن حيرة يصاب بها الصحافيون أمام التعامل مع كلّ هذا، ممزوجة بالإحباط واليأس والغرق في اللحظة، هذا فضلاً عن مشاعر لا يكون هناك قدرة على تفسيرها. وتؤكّد أنّ العامل النفسي والإنساني ليس فقط الصعوبة التي يواجهها الصحافيون الذين يغطون الانفجار وتبعاته، بل أيضاً الحصول على المعلومة والأجوبة.
ولم يكن التضييق والفوضى حكراً على حدثٍ واحد ما بعد الانفجار، بل كانا بمثابة أسلوب موحّد. تُشير مريم سيف الدين إلى "قرارات أمنية يجب أن تُنفّذ" في ما خصّ إبعاد الصحافيين عن أماكن تغطية، من دون إيضاح الأسباب. كما تقول إنّ التعامل القمعي مع التظاهرات ينعكس انتهاكاتٍ ضدّ الصحافيين.
في ذلك الثلاثاء، كانت مراسلة قناة "إم تي في" رنين إدريس في مقرّ القناة. خرج مراسلون آخرون للتغطية، فيما كانت منهمكة بإعداد تقريرٍ آخر. خلال عودتها إلى منزلها ليلاً، كانت الطرقات مزدحمة، وتملأها سيارات الإسعاف. شاهدت الدمار اللاحق بالأبنية، وأدركت حجم الانفجار. فجر اليوم التالي، نزلت إلى الجميزة ومار مخايل كي تغطّي تأثيرات الانفجار. تقول لـ"العربي الجديد": "مررتُ في الشوارع التي تعني لنا، نحن قاطني بيروت ومحبيها. كانت رائحة الموت تملأ المكان. كان هناك جرحى إصاباتهم متوسطة وطفيفة يجلسون أمام منازلهم ومحالّهم التجارية. كان الناس يحملون أغراضهم وحقائبهم ويغادرون منازلهم مهجَّرين. كانت بعض المباني مهدّدة بالسقوط في أي وقت. كان المشهد قاسياً للغاية، وكنتُ أحاول تمالك نفسي كي لا أبكي أمام الكاميرا خلال التغطية".
تشير إدريس إلى أنّها أنهت عملها بصعوبة يوم الأربعاء، ولم تقوَ على القيام به يوم الخميس. يوم الجمعة، كانت مكلَّفة التغطية في الجميزة ومار مخايل، لكنّها لم تستطع أن تكمل يومها. تقول: "لم أستطع أن أرى أحداً أو أن أغادر المنزل لعشرة أيام متواصلة بعدها"، مشيرةً إلى سيطرة شعور الخوف عليها من انعدام الأمان في بيروت، أو حدوث انفجار في أيّ وقت.
تُكرّس بعض المؤسسات هواءها وصفحاتها لرواية قصص الناس، على قاعدة أنّ المواطن هو هدف الصحافة الأول، خصوصاً في وقت الكوارث، فيما تفرض قصص الحجر والتراث والفساد وغيرها نفسها على التقارير الإخبارية. يعمل علي غربية مصوّر فيديو لموقع "درج" اللبناني، ووقع على عاتقه توثيق مآسٍ متعددة، بدءاً من ضحايا انفجار مرفأ بيروت، إلى مصابيه والمتضررين منه، وصولاً إلى المدينة وتاريخها المدمّر. بعد الانفجار، وثّق غربية الدمار الهائل اللاحق بالمباني التراثية، خصوصاً في مناطق لم يسلّط عليها اهتمام إعلامي كافٍ. يقول لـ"العربي الجديد": "لم أصوّر مشاهد الدم فور وقوع الانفجار، لكنّي عملتُ على تغطية تأثيراته. كنتُ أعدّ تقريراً عن الأبنية التراثية في الأشرفية طاولها التدمير حالياً والإهمال سابقاً، حين شعرتُ بضيق التنفس، بالاختناق، بأني لم أعد أستطيع المتابعة. الاختناق هو نفسه عند تصوير أشخاص يحكون عن إصاباتهم وخساراتهم وما حصل معهم". يشير غربية خلال حديثه إلى تشارك شعور "الاختناق" مع أشخاص آخرين، بينهم مَن قابلهم ومَن يعملون على الإغاثة أو المساعدة في إعادة الترميم والبناء، وخصوصاً القطع الفنيّة.
وفيما يؤكّد علي غربية صعوبة العمل الصحافي في خضم المأساة والتأثر بها، يلفت إلى قيام بعض المصوّرين، خصوصاً عبر الطائرات المسيّرة (درون) بخرق خصوصيّات الناس خلال التصوير، وهي مشاهد انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي وفي مقاطع غنائية ودعائية، إذ تخترق الطائرات الأبنية المدمّرة لتصوّر ما فيها للعالم: "هذا أيضاً مزعج. نشاهد درونز تدخل إلى بيوت مدمّرة، ترينا الدمار وتخرج منها. نعم البيوت باتت مفتوحة، لكن لها خصوصية يجب أن تحترم".