حين أستضيف نفسي

18 يوليو 2015

قلتُ لي: صباح الخير هل تشربين القهوة معي؟

+ الخط -

قلتُ لي: صباح الخير هل تشربين القهوة معي؟ ثم ذهبت إلى المطبخ، وأعددت فنجان قهوة غامقة، ووضعته على صينيةٍ، أتركها عادة للضيوف، ووضعت كأس ماء بارد، وعدت إلى غرفة الجلوس، حيث كنت أجلس على الكرسي الهزاز، وضيفتني القهوة وسيجارة الصباح وجلستُ مقابلي، ثم فتحتُ الحديث معي: ما هي أخبار اليوم؟ جاوبتُني: لا شيء جديد، السوريون يموتون على الهواء مباشرة، يموتون بكل أسباب الموت، يموتون ربما بأسباب جديدة، يختبرها الموت وأدواته عليهم. السوريون حين يبتعد عنهم الموت، يبحثون عما يختلفون عليه، ثم يختلفون الخلافات القاتلة، ويطلقون على بعضهم بعضاً رصاص الكلمات. السوريون يبحثون عن أوطان جديدة، وعن بلاد لا تنبذهم. السوريون جميلون أحياناً، وبشعون أحياناً أخرى.

صار السوريون خبراء بالسياسة وبالشعر وبالفن وبالفلسفة وبالاقتصاد وبالدين وبالحروب وبالسلاح وبالفقه وباللغة وبالهرب وبأهوال البحار وأهوال الغابات وبالنصب وبالتعاطف وبالحنية وبالتأفف وبالضجر وبالخوف وبحب الحياة وبالتطرف وبالحرية وبالعدالة وبالثأر وبالحزن وبالفرح. خبراء بكل ما يخطر بالبال، أما سورية فيبدو أنهم لم يعرفوها قط، ولم يعرفوا المعدن الذي تشكلت منه. وحين بدأوا بتلمسه صدموا، وفي صدمتهم ثاروا، وفي ثورتهم ماتوا، وفي موتهم ظهرت سفالة العالم.

قاطعتني قائلة: تتحدثين عن السوريين بوصفهم هم، من أنت؟ قلت: أنا من هؤلاء الـ هم، بي كل ما بهم، ومثلهم أدعي خبرتي بكل شيء، ومثلهم، أيضاً، لم أعرف جيداً ماهية معدن سورية! سألتني هنا: وماذا عن سورية؟ قلت: لا شيء. لم يعد هناك سورية، تفتت وتشتت، واستوطنها الهمج من كل مكان. سورية انتهت، منذ قتل سوري سورياً آخر، ومنذ هلل سوريون لسفك دم سوريين آخرين. منذ صارت قوة السلاح بدل قوة العقل والحكمة، ومنذ صار الجهاد بدل الثورة، ومنذ تم بيعها من النظام ومعارضيه لمشاريع ومصالح وأحلام دول أخرى. هنا، كعادتي في النقاش عن سورية، احتديت علي، ورفعت صوتي وتوترت: لا تلومي الضحية على ردة فعلها. أجبتني: لا ألوم الضحية على ردة فعلها، ألوم من استثمر ردة فعل الضحية، واستثمر ألمها واستثمر دمها. مجدداً ارتفع صوتي، هنا، وارتفع صوتي المقابل. قلت لي: لنتحدث في شأن آخر هذا الصباح، لنحكي عن الأولاد وعن الحب وعن الصداقة وعن الشعر. قلت: لم يعد ثمة طعم لشيء، الأولاد يكبرون ويكبر همهم معهم، وتكبر معهم المرارة. الأصدقاء يقلون، وتقل لحظات الفرح. الحب فقدته تماماً، كأننا لم نعد معنين ببعض. والشعر آخر ما تبقى لي، يشحُّ أحياناً، ويتدلل ويختفي ويعود، يلاعبني ويعذبني ويتعبني ويقلقني ويريحني، كأنني به استبدل حياتي كلها!

قلت هنا: ما بكِ؟ تتحدثين كما لو أن حياتك انتهت. صار الحديث معك مملاً وكئيباً، ومصيباً بالإحباط. سأندم على فنجان القهوة هذا الصباح معك، أحتاج من يمدني بطاقة إيجابية، وأنت، منذ الصباح، تبثين التشاؤم والملل والخيبة والخوف. اسمعي، أنت اعتدت على عزلتك حتى صرت لا ترين من الحياة سوى ما يحرّض على العزلة. قلت: العزلة جميلة، أجبتُ: نعم جميلة حين تجعلنا نرى حقيقتنا ومكاننا في العالم، وحين تجعلنا نكتشف الجمال في كل شيء، وحين تحول هشاشتنا إلى إبداع، لكنها حين تصبح الغاية والهدف، يمتلئ ما حولها بالبشاعة. ولكي نعيش، علينا أن نرى الجمال في كل شيء. هززت رأسي هازئة من كلامي: عن أي جمال تتحدثين؟ هنا، عرفت أن لا فائدة من الحوار معي، وأنني إن تابعت سوف أشحن باليأس، وهو ما لا أريده لي. نهضت، فتحت الباب، وغادرت، وتركتني وحيدة مع عزلتني، كما لو كنت أتمرن على الحياة معها بدهشة المتفاجئ، ثم اكتشفت أنني كل يوم، تقريباً، أفعل هذا صباحاً. أستقبلني وأضيفني القهوة، وأتحاور معي، وأغضب مني، وأغادرني، علني أنتبه إلى ما بي، بينما قطتي البيضاء الصغيرة تقف مدهوشة، وهي تتأمل حالاتي، ثم تهز ذيلها بملل، وتذهب إلى الغرفة الأخرى، كي تلاعب نفسها، وتتركني، هي الأخرى، كما أنا كل يوم صباحاً، وحدي. 

دلالات
BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.