كثيراً ما يُحصر الدور الذي تضطلع به المؤسسات النسوية بالمساهمة في تحسين وضع النساء عبر نضال حقوقي واجتماعي يسعى إلى تغيير الأفكار النمطية الراسخة عن مساهمات المرأة وحدود فاعليتها، إلا أن "مؤسسة المرأة والذاكرة" تسعى إلى توسيع طموحها عبر تبنّي منظور النوع في دراسات التاريخ العربي والعلوم الاجتماعية بشكل عام؛ بهدف إنتاج معرفة ثقافية بديلة حول أدوار النساء العربيات في التاريخ وفي الحياة المعاصرة.
في ضوء هذا الطموح المتسع أفقياً (بمداخله المتعدّدة) وعمودياً (بخط الزمن والأعمار)، جاء حفل إطلاق مذكرات "أنا والشرق" لـ حواء إدريس (1909 - 1988)، وهي واحدة من رائدات العمل النسائي والأهلي المنسيات في التاريخ المصري.
الحفل الذي أقيم مساء الأحد الماضي في "مكتبة القاهرة الكبرى" وسط العاصمة المصرية، صاحَبه معرض مصوّر، توخّى تسلسلاً تاريخياً، لمستنسخات من رسائل وصور فوتوغرافية تخصّ صاحبة المذكرات، إضافة إلى مقتطفات منتقاة من كتابها، وكذا كلمات احتفائية عنها.
المعلومات التي وفّرها المعرض المصوّر تقول إن حواء إدريس وُلدت في القوقاز، وواجهت مع أختها حورية حياة صعبة بسبب وفاة والديهما المبكّرة، وإنها بدأت مشوارها في العمل الأهلي النسوي عضواً في "الاتحاد النسائي المصري" الذي أسسته هدى شعراوي، الرائدة النسوية المعروفة وابنة خالة إدريس، عام 1923.
حواء كانت تقيم هي وأختها في بيت شعراوي وتأثّرت بها، وكتبت تقول "وجدت نفسي محاطة بأشخاص كلّهم يعملون في محيط الخدمة الوطنية والاجتماعية، وألِفت ذلك وكأن هذا العمل قد امتزج بروحي ودمي، فسِرت في تياره وأنا لم أتجاوز الثانية عشرة من عمري".
لاحقاً أسّست إدريس جمعية "شقيقات الاتحاد النسائي" وتولّت رئاستها، وضمّت الجمعية آنذاك من سيصبحن بعد هذا التاريخ شخصيات بارزة في مجالات مختلفة كالأكاديمية سهير القلماوي والناشطة الصحافية أمينة السعيد والباحثة شهيرة محرز وأخريات.
لهذه المذكرات نفسها وقصة ظهورها للنور ما قد يشير إلى بعض تعقيدات حياة إدريس الصعبة. إذ روت الأكاديمية ورئيسة مجلس أمناء "مؤسسة المرأة والذاكرة" هدى الصدة، أن إدريس "أهدت أوراقها وأرشيفها الشخصي ومذكراتها لمكتبة الجامعة الأميركية عام 1971، لكن النسخة المنشورة مؤخراً اعتمدت على نسخة أخرى بدا أنها معدّلة بتاريخ 1973، وهي النسخة التي أهدتها السيدة سنية شعراوي، حفيدة هدى شعراوي، إلى المؤسسة".
قد يتبادر هنا سؤال يخصّ حياة مناضلة تقول سيرتها إنها في جزء كبير منها عملت على مناهضة الاستعمار في كل من مصر وسورية وفلسطين، وحتى خارج حدود العالم العربي، فكيف بها تهدي أرشيف نضالها إلى مؤسسة أجنبية؟ وهل يكون ذلك تشكّكاً له وجاهته- في درجات الإتاحة التي يوفّرها الأرشيف الوطني المصري، فضلاً عن مستويات الجودة في أنظمته؟
لا أحد لديه إجابة قاطعة، لكن سيرة إدريس التفصيلية، إضافة إلى موضوع السيرة الذاتية التي أعادت كتابتها، قد تضيء بعضا من مناطق الإظلام في ما يتعلّق بالأسئلة الفائتة.
تقول مذكرات إدريس- كما أضافت الصدة- إنها في سنوات ما قبل حركة ضباط يوليو عام 1952 نشطت في مجالات عدّة شملت الإغاثة الطبية داخل القطر المصري وخارجه، وكذلك العمل الخدمي والتنموي، كما شاركت في المؤتمر الأول للعلاقات الأفريقية الآسيوية في الهند عام 1947 حيث "ناقشت قضايا العمل الاجتماعي، والحركة النسائية، وحريات الشعوب" وأثارت إعجاب الزعيم الهندي المعروف جواهر لال نهرو فدعاها إلى مأدبة عشاء. كما أنها قبل ذلك بعامين سافرت متطوعة مع الهلال الأحمر المصري إلى سورية لإغاثة جرحى الهجوم الذي شنّه الفرنسيون على دمشق بالمدافع والقنابل.
بعد يوليو 1952، بدا أن النظام الجديد في توافق مع أرباب العمل الأهلي والنسائي (الأمر الذي لن يلبث أن تجرفه رياح التغيير العاتية) وإن افتتحت هذه العلاقة بمراسلات يمكن نعتها بخطابات ذات نبرة متشكّكة وبلهجة حادّة نوعاً ما.
وجّهت حواء إدريس أولى خطابات الحركة النسوية إلى اللواء محمد نجيب بعد سيطرة الضباط الأحرار على الحكم، تطالبه فيها، أثناء كتابة دستور البلاد الجديد وباسم المرأة المصرية: "إزالة الفوارق وتحطيم القيود التي خلقتها العقليات الرجعية في الماضي لتحول بين مصر وبين تقدّمها"، وأضافت "إن مصر لا تستطيع أن تكون دولة عظمى بنصف أبنائها، والاتحاد النسائي المصري يطالبكم باحترام توقيع مصر على ميثاق حقوق الإنسان".
لكن قوانين الحكّام الجدد التي أُلغيت بموجبها الأحزاب وأغلقوا معظم الجمعيات الأهلية أو قيّدوا نشاطها، طاولت الاتحاد النسائي المصري، فتغيّر اسمه إلى "جمعية هدى شعراوي". وفي هذا تقول هدى الصدة: "تحوّل الاتحاد من كيان يمارس العمل الاجتماعي والسياسي إلى كيان يقدم العمل الخدمي فقط".
وبخصوص تأثير ذلك على حياة إدريس، فإن الحراسة ستُفرض عام 1964 على بيت هدى شعراوي الذي كانت إدريس تقيم في إحدى غرفه، وبعد طردها منه كتبت رسالة مفصّلة تطلب فيها استرداد أمتعتها من "المنزل الذي عشت فيه منذ طفولتي إلى أن استولت عليه الحراسة"، وعدّدت في رسالتها ما تحويه غرفتها، التي تقول إنها مكوّنة من "سرير بمُلّا فرنساوي ومرتبة ومخدّات وملايات وفوط ودولاب للملابس وتسريحة بكرسي وشيزلونج وكنبة وثلاث سجاجيد عجمي من الحجم المتوسط وبعض أوانٍ من الصيني كانت تهدى إلي من السيدات المشتغلات بالحركات القومية والنسائية في البلاد العربية والغربية عندما كانوا يأتون إلى زيارة مصر وبطانية صوف بيج وغطاء سرير قطن".
أضافت الصدة أن "سيرة حواء إدريس تعدّ مرادفاً موضوعياً لمسار الحركة النسوية في مصر"، وما تلمح إليه الصدة يتصل بتقليم الأظافر الذي مارسه ضباط يوليو على عموم العمل الأهلي والاجتماعي بالتضييق والتقييد وحتى بسن القوانين، بدءاً من ضم الأوقاف الأهلية لسلطة الدولة حصراً، وانتهاءً بحلّ ذلك العقد السلس بين العمل السياسي والاجتماعي الذي كان موجوداً في النصف الأول من القرن العشرين، والذي كان من نتائج إنهائه لهذه اللُحمة حصول المرأة على بعض حقوقها السياسية كالتصويت في الانتخابات والبروز في العمل العام، لكنها بقيت مهضومة الحقوق الشخصية ارتباطاً بقوانين وسلطات ذكورية راسخة.
من المؤسف القول إن الأمر لم يتغيّر كثيراً عمّا كان عليه في النصف الأول من القرن العشرين، الزمن الذي بدأت فيه إدريس نشاطها الأهلي النسوي، وما تبعه من إحباطات قادتها إلى تكريس حياتها بعد حركة الضباط الأحرار لإدارة دار الحضانة في جمعية هدى شعراوي بعدما عصفت رياح يوليو بالعمل السياسي والأهلي وبالاتحاد النسائي.
غير أنه يبقى في المقابل أن مثل هذه النشاطات التعريفية والتوثيقية لمنسيات في التاريخ الوطني العام، كمحاولة "لإنتاج معرفة بديلة حول النساء العربيات، وإتاحتها بوصفها مادة يمكن توظيفها في زيادة الوعي ودعم النساء"، قد ترسّخ جذور وعي بديل منشود، حتى ولو لم يكن من بين عشرات الحاضرات في حفل إطلاق مذكرات إدريس سوى ستة رجال فقط!