انظر إلى الصورة على اليسار، تجده ينطلق على الدوام، ويتجدد بلا انقطاع. هو حنظلة، الأمير الفلسطيني الفقير، قديس إعادة الانبعاث. لم يتلاش بإطلاق رشقة من كاتم الصوت على جمجمة مَن خلقه، مكمّلاً ما انطلقا في صنعه معاً من كشف الكائنات الرخوة المتكرّشة، لينقلاها من أروقة القرار (سواء كان عربياً أم من كواليس قيادة منظمة التحرير الفلسطينية)، إلى إطار الكاريكاتير وجدران مخيم عين الحلوة، حيث بدأ ناجي العلي في كنف غسان كنفاني.
اتكأ الرسام مرةً على سيرة صديق له، من زمن آخر، ووجع غير بعيد، قبل أن يعرف ما سيجمعهما من مصائر، وما سيلتف حول كعبيهما من مكائد، فوضع حنظلة على شاكلة هذا الصديق، وفاءً لذكراه، أو اختياراً لدرب موصول بينهما، فقدّمه مسجّى والسهم في كعبه، لنخاله "آخيل" بطل حرب طروادة وشهيدها.
تصوير حنظلة عبر الشخصية الإشكالية في هذه السردية الملحمية، أي آخيل، يتضح أكثر عندما ننظر إلى دور حنظلة كما قدّمه مُبتكِره، كونه الشخصية المركزية في مجمل كاريكاتيراته منذ التقيا، وهو الفرد الإشكالي بامتياز لديه، ولم يغب عن رأس ريشته منذ تحقق الخلق بينهما.
مع حنظلة، لا نكون أمام شخصية كرتونية فقط، أو أحد رموز المعطى الأدبي عن فلسطين، بل نتعدى الأيقونية التي انتزعها، لنصبح برفقة الممثّل الأبرز، والتعبير المكثّف عن الفرد الإشكالي في مسيرة ناجي العلي الكاريكاتيرية. حتى في لحظة وجوده الأولى، فهو، أي حنظلة، سقط إلى عالم البشر، من عوالم الوعي، عبر أزمة، هي من شأن المبدع الذي خلقه، وشأن تغريبته، التي طالت بحصيلة سنوات ثمانية، كأنها في زمن وعلى تراب فلسطينيين، آتياً إلى لوحات صاحبه ثورياً متمرساً، يفتش عن حساب مع التاريخ.
وبعد أن جاء ليقلب العالم بالشكل الذي يحقق مراده ويرضيه، وجد أن اضطهاد من أتى لأجلهم، كما ضعفهم، يزداد اشتباكاً، باحثاً عن الثورة، بما هي قلبٌ جذري لمعطيات الواقع وترجمة لمقولة مرسومة في خياله.
واجه هذا الكائن الأدبي اصطداماً فظاً بحركة الواقع، كما تعرّضت لمثل هذه الحالة مجموعة من الشخصيات الإشكالية في أعمال أدبية، بين الرواية والملحمة، والمحكي الشعبي، من الزير سالم في التراث العربي مثالاً، أو هرقل وآخيل في التراث الإغريقي، واللاز صاحب الطاهر وطار، أو متعب الهِذال مع عبد الرحمن منيف في خماسية "مدن الملح"، وصولاً إلى زوربا نيكوس كازانتزاكس. مع هؤلاء يكون حنظلة العلي، ابن قرية الشجرة في الجليل الأعلى، من حيث أتى بطل ملحمي آخر، هو المسيح ابن مريم.
وبصلابته المصقولة ببساطة وعفوية، يدخل حنظلة طقوس إشكالية الفرد، وهذا لما يحمله من همّ تجاه الآخرين، ليصبح إحدى أدوات تحليل ناجي العلي. وبهذا يتّفق توجه العلي إلى حنظلة بإسقاطه في التيه لحظة التقائه بالعالم، لتتصدر القطيعة الصورة، كما يرى جورج لوكاتش، ليقول لنا عن بطل متدهور يبحث عن قيم أصيلة في فهم عالم متدهور وبوسائل لا يعوزها التدهور أيضاً.