كانت "أحداث حماة"، وهو الاسم الذي روجته أوساط النظام السوري لعملية الإبادة الجماعية التي جرت خلال اجتياحها المدينة مطلع فبراير/ شباط 1982 وقتل عشرات آلاف المدنيين تحت القصف والتصفية المباشرة، ومن ثم استباحة المدينة لأسابيع، تتويجاً لوضع متصاعد بدأ منتصف ستينيات القرن الماضي مع اتضاح نيات المجموعة التي كان يقودها حافظ الأسد للاستيلاء على السلطة.
وقد صدرت منذ ذاك التاريخ تحذيرات من أوساط "الإخوان المسلمين"، بضرورة المواجهة، أقواها تلك التي عبّر عنها ما عُرف لاحقاً بزعيم تنظيم "الطليعة المقاتلة"، الشيخ مروان حديد، الذي تأثر خلال دراسته في مصر بمنهج سيد قطب الذي يدعو إلى مواجهة السلطة بالعنف، خلافاً للتيار الغالب في جماعة "الإخوان" في سورية آنذاك، الذي تبنى نهج حسن البنا الداعي لاقتصار "الجهاد" على الجوانب الدعوية والإرشادية. وعلى الرغم من محاولات الجماعة النأي بنفسها عن "الطليعة المقاتلة"، إلا ان النظام لم يفعل ذلك، ولم يعتبر "الطليعة" جسماً منفصلاً عن "الإخوان"، حتى يكون ذلك مدخلاً له لتحميل الجماعة نتائج أعمال "الطليعة"، وصولاً إلى تصفيتهما معاً.
في تلك الفترة كان يقود حماة ثلاثة أشخاص جميعهم من أنصار رفعت الأسد، شقيق رئيس النظام السوري آنذاك حافظ الأسد، وهم عضو القيادة القطرية يوسف الأسعد، ورئيس فرع الاستخبارات العسكرية العقيد يحيى زيدان، ورئيس فرع الأمن السياسي العميد وليد أباظه، وهؤلاء حكموا حماة بالحديد والنار وأذلوا الناس، ما شكّل بيئة حاضنة لأفراد "الطليعة المقاتلة" الذين استطاعوا في بعض المراحل السيطرة على المدينة ليلاً، حتى أن قوات النظام لم تكن تجرؤ على الخروج إلى الشوارع، بل كانت منشورات جماعة "الإخوان" و"الطليعة المقاتلة" تُوزع علناً.
ونفذ عناصر "الطليعة" خلال العهد السري لتنظيمهم بين عامي 1975 إلى 1979 عمليات اغتيال لبعض رموز النظام، أبرزها اغتيال مدير الأمن القومي في حماة الرائد محمد الغرة، وصولاً إلى العملية الأشهر في 16 يونيو/ حزيران 1979 في مدرسة المدفعية في حلب والتي قُتل فيها 32 من الطلاب المنتمين للطائفة العلوية، وقادها إبراهيم اليوسف، غير المنتمي لجماعة "الإخوان"، وعدنان عقلة المفصول من الجماعة. وعلى الرغم من إدانة جماعة "الإخوان" للعملية، إلا النظام حمّلها المسؤولية واتخذ قراراً بتصفيتها، فما كان من مجلس شورى الجماعة في الخارج إلا أن قرر بعد 3 أشهر من عملية المدفعية المواجهة مع النظام "دفاعاً عن النفس"، وتم التواصل مع العناصر المسلحة في الداخل لتنسيق العمل.
ولمواجهة هذا الاستهداف لـ"الإخوان" و"الطليعة"، اتفق الطرفان على الاندماج منتصف 1981 على أساس أن يتم تنظيم انقلاب ضد النظام بواسطة أنصار "الإخوان" في الجيش بقيادة العميد تيسير لطفي، لكن هذا الترتيب فشل، وكشفت السلطة مجموعة "الضباط الأحرار" في الجيش، إثر وشاية من ضابطين هما أحمد عبد النبي وعبد المجيد عرفا، اعتقل بعدها نحو 400 ضابط، غاب معظمهم عن الحياة.
بعد هذه الضربة، قرر النظام ضرب معقل الجماعة في حماة بدل حلب، حيث مقر مرشد "الإخوان" عبد الفتاح أبو غدة، والذي كان على خلاف مع فرع التنظيم في دمشق بقيادة عصام العطار. واختيرت حماة بدل حلب لأن الأخيرة أكبر وقريبة من تركيا ويصعب تطويقها وعزلها.
وقبل تطويق المدينة، التقى القيادي في "الطليعة المقاتلة" عدنان عقلة مع قائد عناصر "الطليعة" في حماة عمر جواد (أبو بكر)، وأبلغه بأن التنظيم انكشف. وخرج عقلة من المدينة حاملاً رسالة لقيادة التنظيم في الخارج تشرح بالتفصيل الوضع المزري الذي آلت اليه أحوال الجماعة واعتقال معظم كوادرها في دمشق وحلب واللاذقية مع التأكيد على أن الدور المقبل هو على حماة، وسيكون الهدف هو تدميرها على رؤوس أصحابها، وفق المعطيات التي كانت تصل من قلب النظام بواسطة ضابط كبير من داخل القصر الجمهوري تم شراؤه بالمال. لكن جواب قيادة الجماعة في الخارج كان بأنها لا تستطيع فعل شيء. وبعد أن استعجل حافظ الأسد الحسم، أنيط قرار اجتياح المدينة بكل من رفعت الأسد وقائد العمليات الخاصة علي حيدر ورئيس الأركان حكمت الشهابي، وكان قرار الاجتياح في 2 فبراير/ شباط 1982 بعد تطويق المدينة من كل الجهات.
يقول شاهد العيان محمد أبو عدنان، وهو الاسم الذي أراد تقديم نفسه عبره متحدثاً لـ"العربي الجديد"، وكان أحد القلة من أفراد "الطليعة المقاتلة" الذين تمكنوا من الهرب، إنه بعد بدء القصف على المدينة، توجّه قائد مجموعة الطليعة "أبو بكر" إلى مسجد البحصة في حي البارودية، وحث الناس على المواجهة، فرُفع الأذان عند منتصف الليل، وبدأ كل من يحمل سلاحاً بالتحرك ضد عناصر النظام الموجودين داخل المدينة أصلاً.
ويذكر أبو عدنان معلومة لا ترد في المصادر الأخرى التي تناولت تلك الفترة، وهي أنه جرى قتل المئات وربما الآلاف من عناصر النظام، وكانوا من الوحدات الخاصة وعناصر الأمن، طوال مساء ذلك اليوم وحتى صباح اليوم التالي، ولم ينجُ منهم إلا من تمكن من الهرب خارج المدينة، إذ شارك الجميع في مطاردتهم، وسيطر بعدها عناصر "الطليعة" والأهالي على المدينة لأيام عدة.
ويوضح أبو عدنان في شهادته أنه قبل اجتياح حماة بحوالي 4 أشهر أدخل النظام الآلاف من عناصر الوحدات الخاصة إلى المدينة عاثوا فيها فساداً وقتلاً وإذلالاً للسكان على الحواجز، مشيراً إلى أنه شاهد بعينه جنود النظام وهم يكسرون يد أحد الشبان على حاجز المزراب على سبيل التسلية والاستفزاز، إضافة إلى محاولات نزع حجاب النساء والتحرش بهن في الطرقات.
ويشير إلى أن شرارة المواجهة العسكرية مع قوات النظام اندلعت مع محاولة تلك القوات محاصرة منازل فيها قيادات لـ"الإخوان"، وتم إعلان "الجهاد" عند منتصف الليل من على منابر المساجد. ويضيف "دخلت قوات النظام وفي طليعتها عناصر اللواء 47 رافعة رايات إسلامية كخديعة للمقاتلين في المدينة على أساس أنها انشقت عن الجيش والتحقت بالثورة، ففُتحت لها الطريق، وكان عناصر ذلك اللواء هم طليعة قوات النظام التي دخلت المدينة وبدأت بإطلاق النار على المقاتلين والأهالي، فدبّت الفوضى واختل الموقف لصالح قوات النظام التي سارعت إلى إدخال المزيد من قواتها للمدينة مع قصفها بشدة من الخارج بالمدفعية والدبابات"، مشيراً إلى أن أولى الدبابات دخلت مع مجموعة من الجنود من جهة معمل الملح في منطقة الحاضر إضافة إلى عناصر من الاستخبارات.
ويشير إلى أن حَمَلَة السلاح في المدينة قاتلوا حتى نفاد ذخيرتهم، فقُتل منهم من قتل وهرب من هرب. ومن بين المجازر التي قامت بها قوات النظام آنذاك، يورد أبو عدنان أن تلك القوات جمعت في منطقة البياض حوالي 40 امرأة وجرى قتلهن جميعاً، باستثناء واحدة هي ابنة ابن عمه التي كانت الناجية الوحيدة بينهن بعد أن سقطت تحت النساء القتلى فظنوها ميتة، وروت تفاصيل المجزرة.
تقول تلك الناجية إن إحدى النساء الحوامل كانت على وشك الولادة فطلبت طبيباً، فقال لها ضابط إن معهم طبيباً، وأمر أحد الجنود بشق بطنها بالحربة الموجودة في البندقية، وانتزع الجنين من أحشائها وطرحه أرضاً قائلاً: "هؤلاء إخوان وإذا كبروا سيحاربوننا". ويشير أبو عدنان إلى مجازر أخرى وقعت في المدينة وفق أسلوب واحد وهو الطلب من الشبان الوقوف على حائط ورميهم بالرصاص ثم حملهم بالجرافات إلى سيارات عسكرية لتقوم بدفنهم خارج المدينة وبعضهم ما زال حياً.
وبشأن تفسيره للقسوة التي تعامل بها الجنود مع الأهالي، يقول أبو عدنان إن بعضها ناتج عن الخوف من عصيان الأوامر، إذ كان الإعدام الميداني بانتظار كل من يتردد في إطلاق النار، في حين كان البعض مخدوعاً ولا يعرف من يقاتل. ويشير إلى حادثة وقعت آنذاك، إذ اعتقل أحد جنود النظام الجرحى فقال إن قيادته أبلغت الجنود بأنهم ذاهبون لقتال إسرائيل.
ويوضح أبو عدنان أن مجازر وقعت قبل اجتياح المدينة، منها مجزرة منطقة بستان السعادة في جانب نهر العاصي، حيث قُتل 170 شخصاً برصاص جنود النظام، وأخرى جرت في اليوم نفسه في جانب الملعب البلدي قُتل خلالها عشرات المدنيين وذلك انتقاماً لهجوم على مدرسة عسكرية في اللاذقية، وإثر تهديد حافظ الأسد آنذاك بقتل عشرة مدنيين مقابل كل واحد يُقتل من النظام.