ومع تقدّم الأيام، وجد النظام نفسه محرجاً، مع تزايد أعداد المتظاهرين الذين يخرجون إلى الساحات، لذا كان الحلّ الوحيد أن يعيد لجيل المدينة الجديد الذاكرة الدموية التي وقعت قبل أكثر من ثلاثين عاماً، عندما دمّر الرئيس الراحل حافظ الأسد حماة، وقتل وجرح أكثر من خمسين ألف مدني.
اختارت قوات النظام شهر رمضان (أغسطس/ آب) 2011، لإسكات صوت المتظاهرين الذي يطالبون بإسقاط الرئيس بشار الأسد، وتقدمت دبابات الجيش داخل حماة، بعد حصار دام شهراً، وارتكبت مجزرة سقط فيها 100 شخص في الساعات الأولى من اجتياحها، ونجمت معظم الوفيات عن إطلاق رصاص في الرأس. ما فُسّر على أنه إصرار وتعمّد في قتل المتظاهرين السلميين.
تُعدّ مدينة حماة مركز المحافظة التي تحمل الاسم ذاته، وتقع على نهر العاصي، كما ترتفع عن سطح البحر حوالي 270 متراً، وقد عمد النظام، بعد سيطرته على المدينة بأكملها، إلى إقامة حواجز تحيط بكل حي على حدة، وتفصل الأحياء بعضها عن البعض. وتمّ تقطيع أوصال المدينة بشكل كامل، وبات محالاً المرور من حي لآخر، من دون العبور على أحد حواجز النظام والأمن.
وصل عدد الحواجز التي أقامتها قوات النظام في المدينة إلى حوالي 240 حاجزاً ثابتاً، وكانت في بداية الأمر تحت سلطة مختلف أجهزة الاستخبارات الجوية، والعسكرية، وأمن الدولة، والأمن السياسي. بعدها سلّم النظام بعض الحواجز داخل المدينة لعناصر تابعين من قوات الفرقة الرابعة وقوات الفرقة الحادية عشرة وبعض الكتائب من القوات الخاصة.
وبعدما أخضع النظام المدينة تحت قبضته، خنق الأهالي البالغ عددهم نحو مليون شخص، يُضاف إليهم مليون ونصف المليون نازح. وحدث ذلك عن طريق قطع المياه، الذي وصل في بعض الأحيان إلى شهر كامل، في حين بقي المعدّل اليومي بضع ساعات، لا تكاد تكفي لقضاء حاجات الناس.
في مسألة الكهرباء، يعاني أهالي حماة أكثر من المحافظات الأخرى، لناحية الانقطاع الدائم للكهرباء، إذ يقطع النظام الكهرباء عن المدينة وأحيائها أكثر من عشرين ساعة يومياً، صيفاً وشتاءً، مع ما يؤدي ذلك إلى توقف مئات المحال التجارية وعشرات المصانع عن العمل.
اقرأ أيضاً: المعارضة تواجه النظام جنوبي حلب و"داعش" شمالها
في المقابل، يقوم النظام بتأمين الكهرباء بشكل دائم لمناطقه الموالية في ريف حماة، ولقطعه العسكرية، كمطار حماة العسكري وحواجزه المنتشرة في أرجاء المدينة فقط، من دون المنازل التي تقع في الحي نفسه، حسبما تفيد مصادر أهلية في المدينة لـ"العربي الجديد".
وليس بعيداً عن الكهرباء، لم تكن بقية الخدمات أفضل حالاً، فالمحروقات مثلاً أضحت بيد ضباط النظام وكبار شبيحته. وفي هذا السياق، يقول مدير "مركز حماة الإعلامي" يزن شهداوي، لـ"العربي الجديد"، إن "القيادي في الدفاع الوطني علي الشلي، وأحد كبار شبيحة الاستخبارات الجوية، طلال الدقاق، يُعدّان المالكان الأساسيان للكازيات (محطات الوقود) في حماة، ويستوليان بشكل كامل على صهاريج المازوت والبنزين".
ويضيف شهداوي: "وفقاً لهذا، أصبح إدخال وإخراج أي ليتر مازوت أو بنزين، من وإلى حماة، يتم عبرهما فقط، تحديداً بعد إجبارهما أصحاب الكازيات على إشراكهما في امتلاكها، تحت حجّة حمايتهم من النظام، ومن أي تعدٍّ عليهم".
ويوضح بأن "النظام وأزلامه يتحكمون في الأسعار، ويبيعون ليتر البنزين في الكازيات بأغلى من سعر الدولة الرسمي بعشر ليرات سورية، بينما البنزين الحر (يُباع خارج الكازيات ويتمّ شراؤه من قبل الأهالي من أجل عدم الذهاب للكازيات بسبب الازدحام الكبير)، فيُباع بأغلى بمائة أو 150 ليرة سورية لليتر الواحد، وكل ذلك تحت رعاية النظام وبعلمه".
ويرى شهداوي، القاطن في حماة، أن "النظام لم يعد يكترث بتقديم الخدمات للمواطنين، وبات غير معني بنظافة المدينة. وقد انتشرت الأوساخ في الطرقات التي باتت مليئة بالحفر ولا يتمّ تعبيدها. كما أن النظام لم يعد يُجدّد الحدائق، لتصبح المدينة أشبه بمدينة الخراب على الرغم من وجود مؤسسات الدولة فيها. ولكن النظام لم يعد يقوم بدفع الأموال اللازمة لتلك المشاريع التي تقوم بخدمة المواطن، علاوة على تسريحه لعددٍ كبيرٍ من الموظفين والعاملين في قطاعاته. بالتالي أضحى الأهالي هم المسؤولون وبنسبة 70 في المائة، عن نظافة أحيائهم، بعد تسريح عشرات عمال النظافة".
وفي ظلّ سيطرة النظام على المدينة، "تطوّر" عمل الشبيحة وضباط النظام من المدنيين، خصوصاً ممّن تطوعوا في صفوف النظام، كالدقاق والشلّي، اللذين يمتلكان عناصر خاصة بهم، ويدفعان رواتب العناصر من الأموال التي يكسبانها عن طريق اختطاف أبناء العائلات الغنية في حماة، وعمليات تهريب المازوت، والمتاجرة بالمعتقلين وإخبارهم لذويهم.
الدقاق، القيادي في الاستخبارات الجوية بحماة، هو أحد سكان طريق حلب ـ حماة، وقد تطوّع في الاستخبارات في نهاية عام 2011، وبات مالكاً لمعرض سيارات ولعدّة كازيات ولعشرات صهاريج المازوت، بعد أن كان عاملاً في المدينة. وكذلك الشلّي، الآتي من ريف حماة الغربي، ليُصبح من أكبر قياديي مليشيات "الدفاع الوطني" في حماة.
بالإضافة إلى الدقاق والشلّي، فقد عمل الضباط في حماة على إجبار التجار وأصحاب الكازيات والمطاعم والمحال التجارية الكبرى على إشراكهما في تلك القطاعات، تحت حجّة "حمايتهم وحماية أموالهم من النظام ذاته ومن تسلّط العناصر عليهم". وتقول مصادر خاصة لـ"العربي الجديد" في المدينة، إن "ضباط النظام ذاتهم يقومون بتهريب المازوت من وإلى المناطق المحررة عن طريق حواجزهم ذاتها وبعلم رؤوس النظام، كما أن تجارة الدولار أيضاً تتم عبرهم".
لم تتوقف الأمور عند هذا الحدّ، بل تزايدت بعد بدء التدخل الروسي في سورية لحماية النظام من السقوط. وفي هذا الصدد، أنشأت القوات الروسية مركزاً لقواتها العسكرية البرية في معسكر الفروسية، الواقع بين حيّي الصابونية وجنوب الملعب في حماة، وذلك بعد أن كانت تتخذه قوات الفرقة الرابعة مقراً لها داخل المدينة، ليتم تسليمه للقوات الروسية مع رفع علم روسيا في أعلى المبنى.
وقد شهدت المدينة توتراً أمنياً كبيراً عند وصول الضباط والخبراء والعناصر الروس إليها. وتمّ وضعهم أولاً في فنادق في ساحة العاصي، وتمّ قطع الطرق المؤدية للساحة لمدة ثلاثة أيام، إلى أن تمّ إفراغ مبنى الفرقة الرابعة بالكامل، ونقل العناصر والضباط والخبراء الروس إليه، بموكب كبير جداً، كانت ترافقه عشرات السيارات والمصفحات العسكرية، مع قطع طرق المدينة ليلاً، لتأمينها لهم من أي عمليات عسكرية من قبل فصائل المعارضة.
وبدأ الأهالي في حماة يشاهدون القوات الروسية علناً في شوارع المدينة، برفقة عناصر من فرع الأمن العسكري كحماية للعناصر الروسية. وأضحى "طبيعياً" رؤيتهم في المحال التجارية، والحلاقة، ومحال بيع الألبسة والأحذية في أسواق المدينة. وتمّ رصد عناصر روسية في منطقة الحاضر، وفي شارع ابن رشد، وفي ساحة العاصي، وحي الصابونية، حسبما أكد نشطاء في المدينة لـ"العربي الجديد".
ويروي أحد السكان لـ"العربي الجديد"، قصة حدثت قبل أيام حول تجوّل القوات الروسية في الشوارع، إذ يقول إن "النظام، وبشكل مفاجئ، قطع الطرق المؤدية إلى قلعة حماة وإلى سوق ابن رشد، أكبر أسواق المدينة وأشهرها، بشكل كامل ومنع مرور السيارات إلى تلك الشوارع منعاً باتاً، حتى لو كانت لشبيحة النظام".
ويضيف أن "رتلاً كبيراً مؤلفاً من أكثر من عشر سيارات مختلفة إحداها تحمل العلم الروسي توجه إلى سوق ابن رشد في المدينة، ومن ثم وقف الرتل في منتصف الشارع المؤدي إلى شارع ابن رشد، ونزل ضباط من استخبارات النظام برفقة ضابط روسي، كان في داخل السيارة التي تحمل علماً روسياً، إلى إحدى محال المدينة، وقاموا بإخلاء المحل من جميع من كان فيه، عدا صاحب المحل فقط، وتم وضع أكثر من عشرة عناصر لحراسة المحل". ويكشف أن "ذلك كان من أجل شراء هذا الضابط الروسي حذاء فقط من سوق مدينة حماة، وبعد انتهاء الضابط من شراء الحذاء، تم فتح الطرقات عقب ساعة كاملة من ذهابه".
اقرأ أيضاً: حماة... قلعة النظام السوري تحت أعين المعارضة