حكواتي: إنتحار على قيد الحياة

16 ديسمبر 2014
يريد أن يرتاح من أوامر الضابط اللئيم (Getty)
+ الخط -
لم يكن يزورني إلاّ لأمر خطير. ولأنّ وجهه كان رسالة مفتوحة، فقد انتقل اضطرابه وخوفه إليّ. كان ابن أختي شديد الحساسية والخجل، تعتريه رجفة لا إراديّة في المواقف المهينة، فيتلجلج صوته، ويتلعثم، وتختلج عضلات وجهه، ويصعب عليه التحكم بشفتيه، بانتظار النطق. لكنّه استطاع يومها، مستعيناً بتفادي النظر في عيني، أن يقول، بلا مقدمات: "خالي، أنا بدي أنتحر".

شعرت بتعرق بارد يسري منحدراً في منتصف ظهري. سكوت لبرهات، لكن حين سألته عن السبب، أجاب أنّه يريد اللحاق بزميله، الصديق الوحيد في الثكنة. سألته كيف انتحر زميله، فأفهمني أنّه غافلهم في الليل، وانسلّ من الخيمة مع بندقيّته، قاصداً حفرة دبابة قريبة، لينتحر بعيداً عن الجميع (هو الآخر يخجل من أن يزعج الآخرين) فيرتاح من إهانات الضابط اللئيم!

وهذا ما حصل. أحسست يومها كأن قبضة قوية تضربني في معدتي، فتزعزعني. لكنني تحاملت على أثر الصدمة، وتأثرت لإدراكي براءة ابن أختي، ومدى حبه لي، ومراعاته لمشاعري، لدرجة فرضت عليه إطلاعي مسبقاً بقراره، فلا يعرّضني لتلقي خبر انتحاره، من غيره!

لم تكن هناك أية حرب أو ضرب يومها، ولكن متى كان هدر الأرواح، في جيش الأسد، يجد من يأبه له، خصوصاً أنّ نسبة الضحايا المسموح بها، فقط في التدريبات، تزيد على العشر. بعد كل تلك الأفكار المريرة والحقد الدفين الذي لم أكن الوحيد الذي يسيطر على عقلي بل معظم من عاش ويعيش في ظلم الحكم، استجمعت حقدي، وقلت له: "إياك أن تنتحر قبل أن تقتل الضابط".

هنا حدث له ما كنت أحدسه: انعقد لسانه، ولم ينطق بعدها، وجمد كالحجر. جمد ابن أختي لبقية عمره. لم ينتحر ... شيء ما تصلّب في داخله - كان يوماً ما، قلبا يسع العالم- فصار عضلة تضخ الدم، وتهتم بمستقبل أسرته، فقط لا غير.

بنى بالتدريج، في بقعة قصية من طرف الضيعة، غرفتين من خوف، ومنتفعات من حذر بلا نوافذ. وعاش مع أسرته - بقية من عمر- ما كان محسوباً أو ربّما. لست متيقناً الآن، إن كنت قد أنقذت ابن أختي من الموت، أم أنّني قتلته!!؟
دلالات
المساهمون