حكاية لبنانية في شهرين

17 سبتمبر 2016
+ الخط -
للبنان شهران أساسيان من كل عام. لم يخرجا بعد من الذاكرة الجماعية "الشعرية" أو "الانفعالية"، ويرفضان التحوّل إلى الواقعية التي تفترض المحاسبة. شهرا أبريل/ نيسان وسبتمبر/ أيلول من كل عام يختصران مساراً لبنانياً مغلقاً، لم يخرج من الدائرة المفرغة بعد.
تبدأ، مطلع كل أبريل، الدعوات اللبنانية لحضور مناسبات متعلقة بذكرى اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990) التي تُصادف في 13 أبريل. الأسطوانة الممجوجة "تنذكر وما تنعاد (نتذكّر كي لا تتكرّر)"، مع بعض الندوات السخيفة، تبدو أقرب إلى جهلٍ مجتمعيٍ بكيفية الخلاص من نير الحرب وإفرازاتها، منها إلى محاولاتٍ لإخراج اللبنانيين من حالة الحروب إلى وضعية السلام. لا بل تبدو وكأنها بعيدة عن الواقع، أو عن حقيقة الحرب. كذلك في سبتمبر الذي يتحوّل فيه أكثرية اللبنانيين إلى متاريس متقابلة بين "استشهاد" بشير الجميّل أو "عمالته"، وبين "خيانة" حبيب الشرتوني أو "بطولته". انتُخب الأول رئيساً للجمهورية في 1982، وقُتل على يد الثاني قبل تسلّمه الحكم في 14 سبتمبر من العام عينه.
في هذا الصدد، لا تبدو النزعة اللبنانية تصالحية، بل يتم استغلال كل سانحةٍ لتأجيج الخلاف، ونقله من عامٍ إلى آخر، ومن جيلٍ إلى آخر، علماً أن الحزبين اللذين ينتمي إليهما الجميّل (الكتائب اللبنانية قبل تأسيسه القوات اللبنانية)، والشرتوني (الحزب السوري القومي الاجتماعي)، يتشاركان حياة اجتماعية في مناطق وقرى عديدة في منطقة المتن الشمالي (شرق بيروت). كما أنهما تحالفا، أكثر من مرة، في انتخابات بلدية لبنانية بين أعوام 1998 و2016. مع ذلك، لا يبدو التواصل الاجتماعي، والبلدي، دافعاً لإرساء مفهوم "المحاسبة" أو تجاوز الماضي، بما لا يسمح بتكراره في أي وقتٍ في المستقبل.
الأسوأ أن أجيالاً عدة وُلدت بعد الحرب الأهلية باتت تحيا في ظلالها، وكأنها نبراس لأولئك الذين وُلدوا بعد حرب عام 1860 بين الطائفتين المارونية والدرزية، ثم الذين ولدوا بعد الحرب الأهلية الخاطفة التي دامت بضعة أشهر عام 1958. وصلت صورة الحرب إلى جميع هؤلاء أكبر أو أوسع أو أكثر دموية أو أكثر بطولة أو أكثر إيلاماً، من دون معايشة الواقع أو لمسه. هؤلاء بالذات، أجيال ما بعد الحرب، يُشكّلون وقوداً أساسياً في أي صراع عنفي مستقبلي، يتمّ ضخّه بالشعارات والخطابات والأغاني.
لن تنتهي تلك الدوامة الانفعالية إلا بمحاسبة جميع من تورطوا وُرّطوا في لبنان، وهو أمرٌ لن يحصل، أقلّه في الوقت الحالي. لا يُمكن أن نأمل في استقامة الأوضاع ما دام أمراء الحرب طلقاء ويحكمون. كما أننا غير قادرين على محاكمتهم وفقاً للمنظومة الاجتماعية ـ السياسية الحالية. الأرجح أننا سنضطر للانتظار طويلاً، حتى تنتهي أمور كثيرة في لبنان بفعل الزمن.
كيف يُمكن الخروج من هذه الدوامة على المستوى الفردي؟ فقط حين يقارن اللبناني يومه بأمسه وما ينتظر غداً. حين يقف للحظة مدركاً أنه شارك في حروبٍ سياسيةٍ وإعلاميةٍ، مباشرة أو على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، مفرغاً غضبه أو انفعالاته، ثم، حين يخلد للنوم تدهمه الأفكار "السوداء"، ككونه مديوناً للمصارف، أو أمامه أقساط مدرسية، أو أن لديه وضعاً طبياً يستلزم "تقبيل" أيادٍ كثيرة كي يبقى على قيد الحياة، فيما هو حقه الطبيعي، ومن بديهيات الدنيا أن تتأمن أبسط سبل الحياة له. إذا وضع اللبناني حاجاته الاجتماعية على قائمة أولوياته، ينتصر على تاريخه السلبي طوائفياً ـ مناطقياً ـ طبقياً. ولعلّ تجهيل المواضيع الاجتماعية لصالح الأولوية السياسية ساهم في تحطيم التفكير الاجتماعي، لكنه لم يقضِ عليه.
نستطيع التنظير مطولاً في كل أبريل وسبتمبر من كل عام، لكننا نتناسى أن الحياة لا تتوقف بل تستمرّ. ونتناسى أيضاً أن التجارب والأحداث يُفترض أن تكون "معمودية نار" لمستقبلٍ أفضل، لا أن تتكرّر كل فترة.
6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".