18 نوفمبر 2024
حقيقة العداء العربي لإسرائيل
يقول التاريخ الرسمي العربي إن هناك صراعاً عربياً ـ إسرائيلياً، قام قبل ولادة إسرائيل، بحكم طبيعة العدو الاستيطانية التي استولت على الوطن الفلسطيني، وطردت السكان الأصليين إلى خارج حدود المكان الذي سيطرت عليه من فلسطين التاريخية، رافضة عودتهم إلى ديارهم، كما نصت قرارات الأمم المتحدة. وقد أقامت العصابات الصهيونية دولتها المغتصبة على أنقاض الشعب الفلسطيني، ووطنه التاريخي. واستمر هذا الصراع بعد تأسيس إسرائيل، لأنها استمرت في إنكار حق الفلسطينيين في وطنهم. وأكثر من ذلك، لم تكتفِ إسرائيل بذلك، بل قامت بعدوانها في العام 1967 واحتلت ما تبقى من فلسطين، واحتلت أراضي من دولتين عربيتين (مصر وسورية) أيضاً. وبقيت الرواية ذاتها تكرّر ضرورة وضع حد للعدوانية الإسرائيلية، بإلزامها بإعادة الحقوق لأصحابها. وبعد أن كان الصراع مع إسرائيل صراع "وجود"، بات المطلوب إعادة الأراضي المحتلة في 1967 إلى الدول العربية وإقامة الدولة الفلسطينية على الأراضي التي احتلت ذلك العام أيضاً، مع حلٍّ كان يقال "عادلاً" لمشكلة اللاجئين، بات يُقال اليوم "مقبولاً". وبالتالي العداء لإسرائيل نابع من وضع القضية الفلسطينية بوصفها قضية العرب المركزية.
هذا ما يقوله التاريخ الرسمي العربي على مستوى الخطاب. لكن هل كان التاريخ السياسي الحقيقي للدول العربية متطابقاً مع هذا الخطاب الذي يكرّره الجميع بفوارق طفيفة بين هذا الطرف العربي وذاك؟ وهل كانت القضية الفلسطينية فعلاً قضية العرب المركزية، وهل كان العداء لإسرائيل حقيقياً، وله الأولوية في العمل على إعادة الحقوق الفلسطينية إلى أصحابها؟
تدّل قراءة تاريخ الصراع العربي ـ الإسرائيلي، على مستوى المعلومات المتوفرة الآن، من دون المعلومات السرية التي لم يُكشف عنها، أن الكلام عن مركزية الصراع مع إسرائيل شيء
والسلوك السياسي في الواقع التاريخي شيء آخر. فلسنا بحاجةٍ إلى كثير من البحث التاريخي، لنعرف أن هناك حالات عداء وصدامات عربية ـ عربية تجاوزت في حدّتها العداء لإسرائيل، حتى أن بعض أطراف الصراعات العربية البينية والصراعات الأهلية العربية استعان بإسرائيل، وتعاون معها علناً في مواجهة خطر داخلي، لم تعتبره أخطر من إسرائيل فحسب، بل اعتبرت إسرائيل حليفها في صراعاتها الداخلية.
لقد استثمر التاريخ الرسمي للأنظمة العربية القضية الفلسطينية بوصفها القضية المركزية، لإخراس الأصوات المعارضة الداخلية، وقمع الشعوب العربية وإلغاء حرياتها بحجة الصراع، أي أنه كان استثماراً تم توظيفه في القبض على السلطة في العالم العربي واحتكارها بحجة هذا الصراع. ولكن، على مستوى الصراع نفسه لم تفعل شيئاً ذا بال، فكان التناقض صارخاً بين الخطاب السياسي للأنظمة العربية والسلوك السياسي في الواقع الموضوعي. وبذلك، كانت إسرائيل آمنة، على الرغم من كل الخطابات العنترية بشأن الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وهناك أطراف عربية كثيرة غير الموقعة على اتفاقات مع إسرائيل، أقامت علاقات سرّية مع إسرائيل، وكانت في تحالفٍ موضوعي معها. وفي وقائع كثيرة، كان العداء العربي ـ العربي أكثر حدّة من أي عداء عربي لإسرائيل، وهناك من له أراض محتلة، وكلما ضربته إسرائيل أعاد الخطاب الذي يكرّره منذ أكثر من أربعين عاماً أنه سيرد في المكان والزمان المناسبين. ولكن حتى الآن، لم يجد المكان ولا الزمان المناسبين، اللذين لم يأتيا، ولن يأتيا. فالكلام عن الصراع شيء، وتحويل هذا الكلام سياسة في الواقع الموضوعي شيء آخر. لذلك، لا يتورّع النظام السوري عن ذبح السوريين، بذريعة الصراع مع إسرائيل، في وقتٍ سقط خلال سبع سنوات من الصراع من أجل التمسك بالسلطة من ضحايا سوريين (خمسمائة ألف في أقل تقدير) على يده، وهذا العدد أكثر من خمسة أضعاف من سقطوا في مائة عام من الصراع العربي ـ الإسرائيلي على كل الجبهات، ومن كل الأطراف (يقدر العدد بمائة ألف). ولنا أن نتصوّر التناقض الصارخ بين الادّعاء والممارسة في الواقع الموضوعي. وهذه الهوّة بين الادّعاء بمركزية الصراع والسلوك المناقض لا تقتصر على الدولة المحيطة بإسرائيل، مثل سورية، وخطابها "المقاوم" وحماية إسرائيل فعلياً أكثر من أربعة عقود، بل، يتجاوزها إ
البلاد الأبعد جغرافياً، كأن يحتل بلد عربي بلداً عربياً آخر بحجة الصراع مع إسرائيل، فقد احتل العراق الكويت في 1990، وعندما نشطت المساومات، اشترط العراق انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة مقابل انسحابه من الكويت، وكان الطلب غريباً وشعبوياً، فالكويت لم تكن أرضاً إسرائيلية استولى عليها العراق لمساومتها مع إسرائيل. وعندما بدأت حرب الخليج الأولى 1991 لإخراج الجيش العراقي من الكويت، أطلق النظام العراقي عدة صواريخ باتجاه إسرائيل، محاولاً استثمار الصراع العربي ـ الإسرائيلي لوقف الحرب ضده، ولم يكن لهذه الصواريخ الدعائية أي تأثير، لا على إسرائيل التي ألزمتها الولايات المتحدة بضبط النفس، ولا على مسار الحرب التي أدت إلى إخراج العراق من الكويت، وفرض الحصار عليه.
ما يمكن قوله إن السياسات العربية الفعلية ساهمت أو تواطأت مع تأسيس إسرائيل، ومن ثم مع توسعها وقضمها الأراضي الفلسطينية. وهي في أحسن الحالات، لم تفعل شيئاً يُذكر في مواجهة السياسات الإسرائيلية التوسعية، سوى إصدار بيانات الإدانة، من دون أن تترافق هذه البيانات مع أي تحضيراتٍ أو خططٍ لمواجهة السياسات الإسرائيلية. في وقتٍ وظفت فيه السلطات العربية كل خطابها بشأن الصراع مع إسرائيل، من أجل احتكار السلطة الداخلية، واستمر الصراع أيضاً، من تأجيل القضايا والمطالب الداخلية، من قضية الحريات إلى قضية السياسات الاقتصادية العادلة، إلى العيش في ظل القوانين العادية، وليس تحت قانون الطوارئ والأحكام العرفية.. إلى غير ذلك من المطالب الداخلية الملحّة. وبذلك كانت قضية الصراع مع إسرائيل الاستثمار الأمثل في داخل البلدان العربية، من أجل احتكار السلطات، وكانت الأساس في إنتاج خطاب سياسي منفصل تماماً عن الواقع، فالشعارات شيء والواقع السياسي شيء آخر، وهذا ما جرَّ نفسه في ما بعد على كل القضايا الوطنية الداخلية العربية، بحيث بات الخطاب السياسي الرسمي يتحدث عن بلدٍ ليس موجوداً في الواقع الفعلي، وإنما موجود في الخطاب، بينما الموجود في الواقع بلد آخر، البلد الحقيقي بكل أوضاعه المزرية.
هذا ما يقوله التاريخ الرسمي العربي على مستوى الخطاب. لكن هل كان التاريخ السياسي الحقيقي للدول العربية متطابقاً مع هذا الخطاب الذي يكرّره الجميع بفوارق طفيفة بين هذا الطرف العربي وذاك؟ وهل كانت القضية الفلسطينية فعلاً قضية العرب المركزية، وهل كان العداء لإسرائيل حقيقياً، وله الأولوية في العمل على إعادة الحقوق الفلسطينية إلى أصحابها؟
تدّل قراءة تاريخ الصراع العربي ـ الإسرائيلي، على مستوى المعلومات المتوفرة الآن، من دون المعلومات السرية التي لم يُكشف عنها، أن الكلام عن مركزية الصراع مع إسرائيل شيء
لقد استثمر التاريخ الرسمي للأنظمة العربية القضية الفلسطينية بوصفها القضية المركزية، لإخراس الأصوات المعارضة الداخلية، وقمع الشعوب العربية وإلغاء حرياتها بحجة الصراع، أي أنه كان استثماراً تم توظيفه في القبض على السلطة في العالم العربي واحتكارها بحجة هذا الصراع. ولكن، على مستوى الصراع نفسه لم تفعل شيئاً ذا بال، فكان التناقض صارخاً بين الخطاب السياسي للأنظمة العربية والسلوك السياسي في الواقع الموضوعي. وبذلك، كانت إسرائيل آمنة، على الرغم من كل الخطابات العنترية بشأن الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وهناك أطراف عربية كثيرة غير الموقعة على اتفاقات مع إسرائيل، أقامت علاقات سرّية مع إسرائيل، وكانت في تحالفٍ موضوعي معها. وفي وقائع كثيرة، كان العداء العربي ـ العربي أكثر حدّة من أي عداء عربي لإسرائيل، وهناك من له أراض محتلة، وكلما ضربته إسرائيل أعاد الخطاب الذي يكرّره منذ أكثر من أربعين عاماً أنه سيرد في المكان والزمان المناسبين. ولكن حتى الآن، لم يجد المكان ولا الزمان المناسبين، اللذين لم يأتيا، ولن يأتيا. فالكلام عن الصراع شيء، وتحويل هذا الكلام سياسة في الواقع الموضوعي شيء آخر. لذلك، لا يتورّع النظام السوري عن ذبح السوريين، بذريعة الصراع مع إسرائيل، في وقتٍ سقط خلال سبع سنوات من الصراع من أجل التمسك بالسلطة من ضحايا سوريين (خمسمائة ألف في أقل تقدير) على يده، وهذا العدد أكثر من خمسة أضعاف من سقطوا في مائة عام من الصراع العربي ـ الإسرائيلي على كل الجبهات، ومن كل الأطراف (يقدر العدد بمائة ألف). ولنا أن نتصوّر التناقض الصارخ بين الادّعاء والممارسة في الواقع الموضوعي. وهذه الهوّة بين الادّعاء بمركزية الصراع والسلوك المناقض لا تقتصر على الدولة المحيطة بإسرائيل، مثل سورية، وخطابها "المقاوم" وحماية إسرائيل فعلياً أكثر من أربعة عقود، بل، يتجاوزها إ
ما يمكن قوله إن السياسات العربية الفعلية ساهمت أو تواطأت مع تأسيس إسرائيل، ومن ثم مع توسعها وقضمها الأراضي الفلسطينية. وهي في أحسن الحالات، لم تفعل شيئاً يُذكر في مواجهة السياسات الإسرائيلية التوسعية، سوى إصدار بيانات الإدانة، من دون أن تترافق هذه البيانات مع أي تحضيراتٍ أو خططٍ لمواجهة السياسات الإسرائيلية. في وقتٍ وظفت فيه السلطات العربية كل خطابها بشأن الصراع مع إسرائيل، من أجل احتكار السلطة الداخلية، واستمر الصراع أيضاً، من تأجيل القضايا والمطالب الداخلية، من قضية الحريات إلى قضية السياسات الاقتصادية العادلة، إلى العيش في ظل القوانين العادية، وليس تحت قانون الطوارئ والأحكام العرفية.. إلى غير ذلك من المطالب الداخلية الملحّة. وبذلك كانت قضية الصراع مع إسرائيل الاستثمار الأمثل في داخل البلدان العربية، من أجل احتكار السلطات، وكانت الأساس في إنتاج خطاب سياسي منفصل تماماً عن الواقع، فالشعارات شيء والواقع السياسي شيء آخر، وهذا ما جرَّ نفسه في ما بعد على كل القضايا الوطنية الداخلية العربية، بحيث بات الخطاب السياسي الرسمي يتحدث عن بلدٍ ليس موجوداً في الواقع الفعلي، وإنما موجود في الخطاب، بينما الموجود في الواقع بلد آخر، البلد الحقيقي بكل أوضاعه المزرية.