في دراسة بعنوان "الجريمة والعقاب في مغرب القرن 16"، يركّز الباحث الإسباني فرناندو رودريغيث مديانو، على مفهوم "العدالة" كما مارستها السلطة السياسية في عهد الدولة السعدية في المغرب خلال القرن السادس عشر.
البحث الذي نُشر سابقاً في مجلة فرنسية وصدر مؤخراً (طبعة خاصة بدعم وزارة الثقافة) بترجمة الشاعر سعيد عاهد مع دراسة وشروحات، يقارب مسألة العنف المشروع الذي تمارسه وتحتكره السلطة السياسية، عن طريق العقوبة وإدارة العدالة وترسيخ مفهوم السلطة العقابية.
يشتغل الباحث على مرحلة شكّلت منعطفاً في تاريخ المغرب، تلك التي جرى فيها الانتقال من دولة العصبية القبلية إلى دولة الأشراف، حيث يعتبر القرن الخامس عشر، بالنسبة إلى المغرب، مرحلة مهّدت الانتقال إلى العصر الحديث.
وبحسب الباحث فإن السلطة تمارس العنف وتخلق خطاباً بيداغوجياً يتحوّل إلى ذاكرة لأنه يقوم بذلك عن طريق آثار/وشوم متعذّرة المحو. ويلفت مديانو إلى أن "المغرب السعدي (مرحلة حكم السعديين)، يجسّد نقطة تحوّل جذري في سياق تطور سياسي يكمن مؤشره في قيام سلالات الأشراف "آل البيت" كركيزة أساسية في خطاب حيازة المشروعية. وقد سبق للباحثة الإسبانية مرثديس غارليا أرينال أن أكدت أن المغرب، مع الدولة السعدية، "شهد ولأوّل مرة تطوّر نظام يصل دفة الحكم عن طريق ممارسة اللياقة في العلاقات وعن طريق استعمال القوة المستمدة من النظام السابق المكوّن من سلطات محلية وحكومة مركزية".
بين السلطة الوليدة والسلطة الممارسة، يتّجه مديانو إلى سرد مفصّل للتقاليد العقابية، والتي تطبّق نفس النظام المستمد من أحكام الشريعة في جميع المدن، ويخلص إلى أن "مجرى العقوبات يبرز تراتبية اجتماعية ذات علاقة بفئة من الأشخاص المعاقبين من جهة، وبفئة الجلادين من جهة أخرى". لنكتشف في النهاية، أن "الحاكم هو الذي يقوم بدور "اللورد مارشال" في جميع المدن، ويصدر أحكاماً بإعدام شخص ما أو عدم إعدامه". يضيف مديانو وبما أن القانون الإسلامي لم "ينتج خطاباً متطوراً حول العقوبة باستثناء تطبيق القصاص والفدية، فإن السلطة السياسية تعمّق، من جانبها، صلاحياتها العقابية عن طريق تدخلها من تلقاء نفسها عند غياب الطرف المتهم".
ويتابع الباحث الإسباني محاولة فهم الكيفية التي كان السلطان في القرن السادس عشر يتعامل من خلالها مع الجرائم، مع تحديد طبيعتها التي يعاقب عليها القانون، خصوصاً أن تلك المرحلة التاريخية شكّلت منعطفاً حاسماً في تاريخ تشكّل الدولة الحاكمة في المغرب، وانتقالها من مرحلة العصبية إلى دولة قائمة بذاتها. ويشير إلى أن "العلاقة الوثيقة بين الأنشطة القانونية، بين النظام والفوضى، تقدّم نفسها كعلاقة ضرورية، بمعنى أن السلطة توظّف اللغة الجنائية والعقابية للتعبير عن ذاتها بنفسها كسلطة ممارسة".
وعبر تلاعبها بفضاءات مادية ومجموعات بشرية، تعبّر السلطة عن وجودها، وذلك بالموازاة مع إعمالها لفن خطابة يتناول النظام الاجتماعي ويخدم السيطرة ويعيد تأكيد الموقع المركزي والثابت للسلطة التي توظّفه. ويشكّل إنزال عقوبة الإعدام، أمام العامة، فرجة على الإذلال، لكنّه أيضاً، مكمّل لعملية التطهير.
ويستشهد الكاتب بالمفكر الفرنسي ميشال فوكو، الذي يرى أنه خلال طقوس التعذيب، يمثّل الشعب الشخصية الرئيسية، وحضوره الفعلي والفوري مطلوب لإعمالها. ليظل الهدف إيقاظ الوعي بقيام احتمال كبير بأن أقل مخالفة قد تعرّض صاحبها للعقاب، كما أن العقوبة تولّد الرعب عبر مشاهدة السلطة، وهي تصبّ "سُعار غضبها على الجاني".
يشكل "الجريمة والعقاب في مغرب القرن 16" مرجعاً مهماً للاطّلاع على معطيات دقيقة، انطلاقاً من وثائق ومصنفات تاريخية، حول ظاهرة "العنف المشروع" الذي مارسته الدولة في لحظة تاريخية معينة ولفهم مفهوم "العدالة" حينها.