يعتبر المفكر والكاتب البحريني الدكتور حسن مدن، من أهم وجوه الثقافة البحرينية والخليجية، الأكثر نشاطا وحضورا في المشهدين الثقافي والإعلامي. يكتب وجهة نظره في الصحافة البحرينية والخليجية، ويعلق على الأحداث السياسية والاجتماعية بعمق، يجعله يتحرك ضمن مشغل الفكر اليومي.
صدر له مؤخرا "الكتابة بحبر أسود"، وفي هذا الحوار يتحدث لـ "العربي الجديد" عن أهم الإشكالات التي تسم اللحظة العربية الراهنة بكافة تعقيداتها ودور المثقف العربي و"الربيع" ومآلاته والاستبداد ونهاياته.
منذ أكثر من ثلاثين سنة، واسمك حاضر في الصحافة البحرينية والعربية، كتابة وإبداعا وتفكيرا كأحد أهم الأسماء في الخليج العربي، كيف تقيم هذا المسار في ظل المتغيرات التي حصلت في منطقة الخليج والعالم العربي؟
حين أقارن بين وضعنا الراهن ومرحلة الشباب المليئة بالآمال والوعود التي أسرتنا، أجد أن الأمور في تراجع، لا بالقياس لهاته الآمال وحدها، وإنما بالقياس لما كان عليه الوضع يومها. لكن هذا لا يحملني، ولو لوهلة، على الندم تجاه خياراتي الأساسية في الحياة، فكراً وسلوكاً. أعتقد أن ما دعونا وندعو اليه وعملنا وما زلنا في سبيله، يظل هو خريطة الطريق الصحيحة التي ستأخذ ببلداننا نحو أفق أفضل، أفق الحداثة والتقدم الإجتماعي والحرية الفكرية والعقلية واحترام حقوق الإنسان وصونها، وبناء الدولة المدنية، النقيضة في جوهرها مع سلطة القبيلة أو رجال الدين أو العسكر.
توصف بأنك صوت ديمقراطي، نشاطك مشهود في البحرين، وفي كتابك "الكتابة بحبر أسود" تجمع عصارة تجاربك وأفكارك، وقد أهديت آخر كتبك لجيل الشباب، لماذا هذا الرهان على الشباب؟
رهاني على الجيل الجديد كبير. هذا الجيل يمتلك، بفضل ما يشهده العالم اليوم من تطورات علمية ومعرفية، مهارات لم تتيسر لنا، وطرقه إلى اكتساب المعرفة أيسر من تلك التي قطعناها نحن عندما كنا في أعمار شبان وشابات اليوم، وعلينا أن نصغي برهافة إلى هواجس وآمال وتطلعات هذا الجيل. ومع أن "الكتابة بحبرٍ أسود" هو كتاب عن القراءة والكتابة، لكني وجدت أن الشريحة الأجدر بمخاطبتها عبره هي الشباب، ليقيني أن القراءة والاطلاع والتأسيس الثقافي والفكري المتين كلها عوامل ستمكن هذا الجيل من امتلاك المعرفة والبصيرة. في كلمات وجدت في الكتاب حصيلة خبرة شخصية يمكن للشباب أن يستفيدوا من بعض أوجهها، مع يقيني بأنهم يتفوقون علينا في أوجهٍ أخرى كما أشرت أعلاه.
نحن إزاء جيل مختلف، ينشأ في ظروف جديدة مغايرة، ولا مدعاة لأن نصور أنفسنا بأننا كنا أبناء جيل أفضل أكثر اهتماما بالقضايا الجادة من هذا الجيل. إن الظروف والمعطيات قد تغيرت بصورة تكاد تكون جذرية، ويجد هذا الجيل نفسه على تماسٍ مع مؤثرات مختلفة عن تلك التي عرفناها، ويخضع في تفكيره وفي سلوكه لعوامل لم تكن قائمة عندما كانت أعمارنا في أعمار هؤلاء الشباب .
أكثر من ذلك فإن هذا الجيل يواجه في العمق قضايا غير مسبوقة تتصل بالهوية الثقافية في زمن طغيان العولمة الثقافية التي تقدم نموذجها الخاص في الثقافة. وليس بالوسع عزل هذا الجيل أو فصله عن هذه المؤثرات، بل لعل ذلك ليس مطلوباً، فلكي نواجه قضايا هذا العصر يجب أن نزج بأنفسنا في أتونه لا أن نهرب منه، بيد أن ذلك يتطلب مقاربة شجاعة للتحديات التي يطرحها العصر على تفكير الجيل الجديد وسلوكه في المقام الأول.
تركز في الكثير من مقالاتك التي تمتح من معرفة سياسية وسوسيولوجية، وأثناء قراءتك للمجريات في الخليج والعالم العربي، أن الخطر يأتي اليوم من استيقاظ الهويات المحلية الصغيرة، ألا نعيش اليوم هذا الخطر؟
نعم، فلعل أبرز ملمح للتطورات السياسية الجارية في عددٍ من البلدان العربية هو انفجار الهويات الفرعية، وتشظي الدولة الوطنية العربية إلى مجموعات عرقية ومذهبية وطائفية، بعد أن كان مشروع هذه الدولة بعد الاستقلال هو بناء هاته الدولة الوطنية التي تدمج في نسيجها الواحد مجموعة هويات تتنازل عن بعض صور تضامنها لتغليب الانتماء الوطني العام الذي يوحد الكل في بوتقة أو نسيج الوطن الواحد.
بعض ما يجري حاليا تعود مسؤوليته بدرجة أساسية إلى الدولة القطرية العربية ذاتها التي لم تسعَ لإقامة التوازن بين الهويات الفرعية داخلها على قاعدة المساواة في الحقوق والواجبات، وبلورة هوية وطنية واحدة تكون بمثابة المظلة التي ينضوي تحتها الجميع، على العكس من ذلك فإن هذه الدولة كثيراً ما سعت إلى تغليب منظومات من التضامن الفرعي، كبديل للتضامن الكلي أو الجمعي، مؤسسة على الولاءات، وفي كثير من الحالات لا يدور الحديث عن بناء الوطن الذي يتساوى أبناؤه في كل شيء، وإنما عن توزيع حصص التمثيل الطائفي والسياسي، حتى لو تعارضت مع الطموحات الوطنية المشتركة أو العامة.
ما نحن بصدده اليوم من انفجار مروع للهويات الفرعية، وتشظٍ للهويات الوطنية الجامعة، يحملنا على إمعان النظر في الحدود الفاصلة بين الاعتراف بحق الهويات الفرعية، من حيث هي مكونات ثقافية أو دينية أو لغوية، في الاعتراف بها، وبين أن يؤدي هذا الاعتراف إلى تغول هذه الهويات على بعضها، أو تغول إحداها، كبراها خاصة، على الهويات الصغرى.
في هذا السياق علينا أيضا ألا نتجاهل فكرة الهويات الجريحة التي نجد أصحابها مندفعين في ما يشبه الثارات لأنفسهم من ظلم أو إجحاف أو تمييز لحق بهم، في ردود فعل قد تبلغ حد العنف، في مجتمعات لم تعتد أن تتعامل مع مكوناتها المختلفة بروح المساواة ومنطق المواطنة المتكافئة التي تتخطى تفاصيل الانتماءات الفرعية. والتجربة الإنسانية المديدة تدل على أن أية هوية يتعرض أصحابها للاضطهاد، تستنفر في داخلها آليات مقاومة عنيدة، تحت ضغط غريزة البقاء. وإن بدا ظاهرياً، وتحت تأثير القمع، أن هذه الهويات قد انكمشت على نفسها وربما تعرضت للذوبان، فإن ذلك لن يعدو كونه وهما، فكل ما في الأمر أنها تتحين أقرب فرصة للتعبير عن نفسها مجددا فتعود بقوة غير معهودة.
هذا يجرنا إلى الحديث عن دور المثقف العربي في عالم متحول، هل تجد هذا الدور متحققا، في وقت اختار المثقف العربي الهروب إلى الأمام وعدم مواجهة معضلات واقع أوطانه المريرة؟
علينا أن نعترف أن المناخ الثقافي العربي الراهن يشهد ردة إذا ما قورن الحال بما كان عليه في مراحل سابقة، وتتغلغل في جنبات حياتنا كل مظاهر وقيم السلبية والتخاذل والاغتراب والشعور العميق بالانكسار، مقابل صعود، لسنا هنا بصدد بحث طبيعته وأسبابه وآفاقه، لرؤى ومواقف فكرية تغطي الفراغ الذي نشأ بسب الوهن الذي اعترى مشروع النهضة العربية بروافده وتلاوينه.
ولكن هذا الاعتراف شيء، والدعوة إلى العبثية والعدمية واللاجدوى شيء آخر، حتى لو سلمنا بمشروعية القلق الذي يحفز عليها، حين تُرمى كل الأفكار والأسماء بالفشل، وهذا قد يدفعنا للتساؤل عن الموقف الواجب اتخاذه تجاه ميراثنا الفكري الذي سيكون من التعسف رميه بالتحزب أو بالانتماء الأيديولوجي الضيق، فماذا سنفعل بتراث الطهطاوي والكواكبي وطه حسين وسلامة موسى وغيرهم الكثير؟
ولا يمكن أن نغفل أن بعض "المراجعات" العربية لدور المثقف ليست معزولة السياق عن الدعوات العامة على صعيد كوني، تبشر بنهاية الثقافة الجادة في ظل سيطرة ثقافة المتعة والاستهلاك . لكن حتى في الغرب تدعو الفعاليات الثقافية الحقيقية إلى تشكيل ما تدعوه "جزرا" للثقافة وسط هذا المحيط الاستهلاكي الواسع.
يرى سارتر أن المثقف هامشي على صعيد الانتاج، فهو ليس عاملاً يدوياً ولا رأسمالياً، دائرة نفوذه هي "الوعي" الذي لا يعترف بأهميته أحد . وبهذا التوصيف يكون سارتر قد حدد مواصفات هذا المثقف الذي لا يرتاح لما هو منجز ويضع المسلمات موضع المساءلة والشك، ولا يقف عند حدود معرفته وتخصصه العلمي ويذهب إلى ما هو أبعد منها. إنه ضمير لأنه مفعم بالمسؤولية وبالحس الإنساني العالي، وهو شقي لأنه لا يركن لليقين، ويتميز بالعقل الناقد والقلق، حين تكون الحقيقة لديه مفتوحة متجددة وليست وثوقيات نهائية.
البحرين، بلد لإنتاج المعرفة والحركات الثقافية الطليعية في منطقة الخليج العربي، مع عدد من أسمائها الكبيرة، أما يزال هذا الدور قائما؟
لا أريد القول إن هذا الدور ضعف، إنما هناك تبدلات في المشهد الثقافي ناشئة فيما أرى عن تبدل الظروف، فالبيئة التي أطلقت الأسماء الكبيرة في الإبداع البحريني بين الستينيات والسبعينيات في القرن الماضي حلت معها بيئة أخرى، مختلفة في الكثير من تفاصيلها وملابساتها وحساسياتها. لكن مسيرة الإبداع لم تتوقف في البحرين، هناك وجوه وطاقات إبداعية مهمة تقدم منتوجا لافتاً. وأنا واثق من أن وطننا معطاء، وأنه يختزن الكثير من المواهب والطاقات الواعدة التي ينتظرها مجد إبداعي. كما أن تقاليد الحركة الثقافية والإبداعية في البحرين هي من الرسوخ والقوة، بحيث تؤهل هذا الوطن لأن يقدم عطاءات جديدة منتظرة في مجالات الإبداع المختلفة، خاصة مع ما يتوفر لدينا من دينامية عالية لمؤسسات المجتمع المدني وحيوية النشاط السياسي الذي لا تجد له نظيراً، بنفس الاتساع والدرجة، في بقية مناطق الخليج، مع أن الإنصاف يقتضي القول إن بلدان الخليج العربي الأخرى تشهد تفتح مواهب مهمة في مجالات الإبداع، لا تقل، إن لم يتفوق بعضها، على مثيلاتها في البحرين.
انخرطت بكل عمق في صياغة السؤال الثقافي في المنطقة، ويكاد القارئ يجد خيطا ناظما في كل ما تكتب: الانتصار للحرية والديمقراطية ومهاجمة التعصب وذيول التكفير، ما هو ثمن هذه المواقف عليك ككاتب ومثقف خليجي وعربي؟
تحدثتُ بشيء من الإسهاب في كتابي "ترميم الذاكرة"، وهو بمثابة فصول من سيرتي الذاتية عن الضريبة التي دفعتها لقاء مواقفي مذ كنت شاباً يافعاً، وهي ضريبة دفعها كل أبناء وبنات جيلي، وكذلك الجيل الأسبق، ممن سلكوا الدرب نفسه، بين السجون والمنافي، بل إن بعضهم فقد حياته تحت التعذيب.
في ظروف اليوم نواجه، ما دعيته مرة في أحد مقالاتي بمحنة القوى المدنية العربية، التي تجد نفسها أمام استقطاب جديد غير الذي اعتادته في عقود سابقة، يوم كانت تتصدر النضال في مواجهة الاستبداد ومن أجل بناء مجتمعات ديمقراطية خالية من الفساد، فإذا بها تجد نفسها قليلة الحيلة أمام استبداد مزدوج، واحد يمسك بمفاصل السلطة ويذود عن بقائه فيها بكل ما له من مخالب، ومعارضات تنطلق من مرجعيات مختلفة وببرامج اجتماعية غير عصرية، تهدد منجزات التنوير العربي التي انتزعت بشق الأنفس.
تؤكد على أن انحسار الفضاء العمومي يمكن أن تكون له آثار وخيمة في علاقة الدولة بالمجتمع، لماذا يضيق هذا الفضاء في العالم العربي، وكيف تمكن استعادته كفضاء للحوار البناء؟
انحسار الفضاء العمومي في العالم العربي ناجم عن تضخيم دور الحكومات التي بما في أيديها من قوة تقوم باختراق المجتمع المدني وتحويل مؤسساته إلى تنظيمات تضامنية تعمل كامتداد لأجهزة الدولة، فيما المجتمع المدني في الأحوال الطبيعية يجب أن يكون مستقلاً ونابعاً من الإرادة الحرة للأفراد المنخرطين في مؤسساته، ولدينا في البحرين تجربة غنية في هذا المجال، فجمعيات الأطباء والمهندسين والمحامين وغيرهم من الفئات، وكذلك المؤسسات المعبرة عن الأدباء والمسرحيين والتشكيليين، وأيضاً التنظيمات النسائية، فضلاً عن الحركة النقابية إنما أتت أساساً من قلب المجتمع، ولم تكن الدولة هي من شكلها أو حتى أوعز بتشكيلها، بل إن بعضها واجهت، وما زالت، صعوبات في الحصول على الإشهار الرسمي، ويتعرض الكثير منها، اليوم، لمحاولات التطويع ما يهدد طبيعتها المستقلة عن الدولة، رغم أن الكثير منها بعيد عن الغائية الحزبية.
للتطور الصحي للمجتمعات ولتنظيم العلاقة الصحية بين الدولة والمجتمع، نحتاج إلى توفر وتوسيع هذا الفضاء العمومي الذي يشير إليه السؤال، لأنه الأقدر، بحكم استقلاليته، على إثارة الأسئلة الكبرى وممارسة أدوار مهمة في قضايا التنمية والتحول الاجتماعي والثقافي، وهو من هذا الموقع، لا يكون، بالضرورة، في موقع الخصومة مع الدولة، بل إن دوره المستقل مفيد لها حين يكف يدها عن التدخل في قضايا ليست من اختصاصها، ففي مثل هذا التدخل نزوع نحو الشمولية والإقصاء، وتجاهل لما في المجتمع من تعددية وتنوع.
للأسف، نرى أنه يجري اليوم توظيف وسائل الاتصال الحديثة لخدمة أغراض هي على النقيض تماما من الفكرة التي يراد للفضاء العمومي الحديث أن يلعبها كوسيط بين الدولة وبين المجتمع المدني، لتتحول إلى محرض على إثارة النزعات المذهبية والعرقية والطائفية، لا بل وإشاعة منهج التكفير وتحبيذ الإرهاب والتطرف، وتمزيق المجتمعات وتقويض بنية الدول بدلاً من دمقرطتها وإصلاح أحوالها.
في أكثر من مناسبة تشير إلى أن الفرق بين الشعار والممارسة في العالم العربي شاسع جدا، هل هذا أحد أسباب تخلفنا وفشل مشاريعنا؟
عد إلى شعارات: لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، وأنه لن يهدأ للعرب بال حتى يحرروا فلسطين، وأن فلسطين قضيتنا المركزية، وأنظر ما بلغناه بعد عقود على هذه الشعارات الرنانة. شبراً واحداً من فلسطين لم يتحرر، بل حتى المساحة التي كانت متبقية من الأرض الفلسطينية كي تقام عليها الدولة المنشودة، تقضم يومياً من قبل الاحتلال عبر زنار المستوطنات الزاحف، ما يجعل قيام مثل هذا الكيان الفلسطيني، حتى ولو في صيغة أقل من الدولة، غير متاح فعلياً.
عد إلى شعارات التنمية والتطور الاقتصادي، وانظر أين بلغنا من حالات الإفقار الواسع للشعوب، واتساع الفجوة بين الثراء البذخي الفاحش الناجم عن المال الحرام الذي تستحوذ عليه حفنة صغيرة من المتنفذين والماسكين بزمام الأمور، وبين الفقر الذي يزداد اتساعاً ويطاول أوسع الفئات الشعبية، حيث تزداد الفئات الوسطى تآكلاً واضمحلالا، وتتراجع أداور من يصنفون اليوم في خانتها، عن الدور التنويري التقدمي الذي اضطلعت به في مراحل مختلفة، إلى الدور المحافظ المعيق للتقدم.
عد إلى شعارات الحرية والديمقراطية، وانظر إلى مستويات الاستبداد وتقييد الحريات، لا بل ومصادرتها تماماً في الكثير من الحالات، حيث تتضخم ترسانة التشريعات الكابحة لها، وتزداد عنفاً وقسوة التدابير والإجراءات التي يتعرض لها العاملون في مؤسسات المجتمع المدني.
أليست كل هذه أمثلة على الفجوة الواسعة بين الشعار والممارسة، وهو أمر يطاول حتى القوى المصنفة في خانة المعارضة أو البديل المفترض، التي ما أكثر ما تتناقض ممارساتها مع ما تطرحه من شعارات.
لو طلبت منك أن تحلم، في ظل هذه اللحظة الكابوسية، هل يسعنا أن نرى عالما عربيا أفضل تتحقق فيه شروط المواطنة الحقة والكرامة والحرية؟
أنا من المتمسكين بمقولة أنطونيو غرامشي: "تشاؤم العقل، وتفاؤل الإرادة" ، فنظرة موضوعية على ما نراه اليوم تحملنا بالتأكيد على التشاؤم في أن نرى مستقبلاً واعداً في الأفق المنظور في غياب المشروع الوطني الخاص بكل دولة عربية، وغياب المشروع القومي العربي الجامع، وانهيار الدولة الوطنية ذاتها في بلدان مفصلية، وتعمق الانقسام المذهبي في المجتمعات العربية الذي من مصلحة اللاعبين الإقليميين تعميقه وتجييره لأهدافهم.
لم يعد أحد يتحدث عن المشروع القومي العربي الذي تربت عليه أجيال منذ بواكير الفكر النهضوي العربي، وغابت الروافع الاجتماعية والفكرية والهياكل الحزبية والتنظيمية الحاملة لهذا المشروع أو توارت، فوجدت القوى السياسية الناشطة، وجُلها تمثل الإسلام السياسي بكل تلاوينه، ضالتها في التعلق بمشاريع ليست مشاريعها الخاصة وإنما هي مشاريع لدول أخرى، من مصلحتها أن يظل العالم العربي مجزأ، ومفككاُ وفاقداً للإرادة السياسية.
والمؤمل أن يكون الظرف الموضوعي الناشئ اليوم رافعة للقوى والتيارات المدنية والتقدمية التي تقاعست طويلاً عن أداء دورها، لتذود عن برامجها الاجتماعية في الدفاع عن مصالح شعوبها، والمعبرة عن شرائح المجتمعات كاملة، بديلاً لبرامج زعماء الطوائف، حيث ينشأ اليوم جيل عربي جديد منفتح على المعرفة ووسائل الاتصال الحديثة، لكنه محبط من انسداد الأفق أمامه، يرنو إلى دور هذه القوى المدنية لتأخذ به نحو المستقبل.
لا يمكن للمنطقة العربية، والخليج العربي جزء منها، أن تبقى خارج استحقاقات هذا العصر، حيث كل مناطق العالم تحولت نحو البناء الديمقراطي ونبذ الشمولية، بشكل نبدو معه حالة شاذة في عالم اليوم، ولا مفر أمامنا من ولوج الاستحقاق الديمقراطي الذي لن يحل مشاكلنا وحده دفعة واحدة، ولكنه سيتيح الآليات والميكانيزمات الضرورية لمعالجة هذه المشاكل والتغلب عليها.
مرجل الغضب
على الرغم من التحفظات الوجيهة التي يمكن أن تثار حول مصطلح "الربيع العربي"، فإني أرى في الطوفان الذي شهدناه قبل خمسة أعوام في كثير من البلدان العربية تعبيراً عن توق الشعوب إلى إنهاء الاستبداد والاستغلال والظفر بالديمقراطية والحرية. فعلياً ما من بلد عربي لم تطاوله موجات ونسائم ذلك التحرك في بداياته، وكان ذلك رداً على ما بلغته الأوضاع في البلدان العربية من تردٍ على غير صعيد. ليست مؤامرة أميركية أو صهيونية أو إيرانية أو تركية هي من أخرجت الجماهير الغاضبة الناقمة على أوضاعها في كل هذه البلدان، وإنما لأن مرجل الغضب بلغ حد الغليان، رغم أن مسار هذا "الربيع" سرعان ما انتكس، وبرأيي أن هناك ثلاثة عوامل تضافرت ليحصل ما حصل. أولاً: متانة مواقع الاستبداد في العالم العربي وخبرتها الطويلة، ثانياً: ضعف مؤسسات المجتمع المدني الحديثة وضآلة دور القوى الوطنية والتقدمية وهامشية دورها ما عنى غياب الحاضنة الديمقراطية القادرة على توجيه هذه التحركات في وجهة وطنية جامعة، وتجنيبها الانزلاق نحو شعارات وممارسات فئوية، ما مكَّن قوى الإسلام السياسي من الهيمنة على الشارع ومصادرة الانتفاضات، مع أن القوى الإسلامية في الكثير من الحالات لم تلتحق بالتحركات إلا لاحقاً، ثالثاً وأخيراً: الدور المشبوه الذي لعبه الغرب ودول الناتو من جهة، والقوى الإقليميىة صاحبة المصلحة في عسكرة الانتفاضات والدفع بها نحو الحرب الأهلية من جهة أخرى، سواء بالتوافق فيما بينها، أو بالتواطؤ الضمني.
باختصار:
يشكل الدكتور حسن مدن مع مجموعة من الكتاب والأدباء رموز نهضة ثقافية في البحرين، واستطاع مع جيله أن يبصم بقوة في المشهد الثقافي الخليجي والعربي.
.......
صدر له مؤخراً كتاب "الكتابة بحبر أسود" ويبسط من خلاله مجمل آرائه في الكتابة والمجتمع والثقافة والفن والحياة، يعبر عن انخراط الكاتب في الدينامية التي يعرفها المجتمع في البحرين وفي الخليج والعالم العربي.
.....
من أهم كتبه، يمكن أن نذكر "الثقافة في الخليج، أسئلة برسم المستقبل"، و"مزالق عالم يتغير" و"لا قمر في بغداد، قبل الحرب- بعد الحرب" و"تنور الكتابة"، وغيرها من الكتب التي تعكس تنوع انشغالاته وأفقه المعرفي.
حين أقارن بين وضعنا الراهن ومرحلة الشباب المليئة بالآمال والوعود التي أسرتنا، أجد أن الأمور في تراجع، لا بالقياس لهاته الآمال وحدها، وإنما بالقياس لما كان عليه الوضع يومها. لكن هذا لا يحملني، ولو لوهلة، على الندم تجاه خياراتي الأساسية في الحياة، فكراً وسلوكاً. أعتقد أن ما دعونا وندعو اليه وعملنا وما زلنا في سبيله، يظل هو خريطة الطريق الصحيحة التي ستأخذ ببلداننا نحو أفق أفضل، أفق الحداثة والتقدم الإجتماعي والحرية الفكرية والعقلية واحترام حقوق الإنسان وصونها، وبناء الدولة المدنية، النقيضة في جوهرها مع سلطة القبيلة أو رجال الدين أو العسكر.
توصف بأنك صوت ديمقراطي، نشاطك مشهود في البحرين، وفي كتابك "الكتابة بحبر أسود" تجمع عصارة تجاربك وأفكارك، وقد أهديت آخر كتبك لجيل الشباب، لماذا هذا الرهان على الشباب؟
رهاني على الجيل الجديد كبير. هذا الجيل يمتلك، بفضل ما يشهده العالم اليوم من تطورات علمية ومعرفية، مهارات لم تتيسر لنا، وطرقه إلى اكتساب المعرفة أيسر من تلك التي قطعناها نحن عندما كنا في أعمار شبان وشابات اليوم، وعلينا أن نصغي برهافة إلى هواجس وآمال وتطلعات هذا الجيل. ومع أن "الكتابة بحبرٍ أسود" هو كتاب عن القراءة والكتابة، لكني وجدت أن الشريحة الأجدر بمخاطبتها عبره هي الشباب، ليقيني أن القراءة والاطلاع والتأسيس الثقافي والفكري المتين كلها عوامل ستمكن هذا الجيل من امتلاك المعرفة والبصيرة. في كلمات وجدت في الكتاب حصيلة خبرة شخصية يمكن للشباب أن يستفيدوا من بعض أوجهها، مع يقيني بأنهم يتفوقون علينا في أوجهٍ أخرى كما أشرت أعلاه.
نحن إزاء جيل مختلف، ينشأ في ظروف جديدة مغايرة، ولا مدعاة لأن نصور أنفسنا بأننا كنا أبناء جيل أفضل أكثر اهتماما بالقضايا الجادة من هذا الجيل. إن الظروف والمعطيات قد تغيرت بصورة تكاد تكون جذرية، ويجد هذا الجيل نفسه على تماسٍ مع مؤثرات مختلفة عن تلك التي عرفناها، ويخضع في تفكيره وفي سلوكه لعوامل لم تكن قائمة عندما كانت أعمارنا في أعمار هؤلاء الشباب .
أكثر من ذلك فإن هذا الجيل يواجه في العمق قضايا غير مسبوقة تتصل بالهوية الثقافية في زمن طغيان العولمة الثقافية التي تقدم نموذجها الخاص في الثقافة. وليس بالوسع عزل هذا الجيل أو فصله عن هذه المؤثرات، بل لعل ذلك ليس مطلوباً، فلكي نواجه قضايا هذا العصر يجب أن نزج بأنفسنا في أتونه لا أن نهرب منه، بيد أن ذلك يتطلب مقاربة شجاعة للتحديات التي يطرحها العصر على تفكير الجيل الجديد وسلوكه في المقام الأول.
تركز في الكثير من مقالاتك التي تمتح من معرفة سياسية وسوسيولوجية، وأثناء قراءتك للمجريات في الخليج والعالم العربي، أن الخطر يأتي اليوم من استيقاظ الهويات المحلية الصغيرة، ألا نعيش اليوم هذا الخطر؟
نعم، فلعل أبرز ملمح للتطورات السياسية الجارية في عددٍ من البلدان العربية هو انفجار الهويات الفرعية، وتشظي الدولة الوطنية العربية إلى مجموعات عرقية ومذهبية وطائفية، بعد أن كان مشروع هذه الدولة بعد الاستقلال هو بناء هاته الدولة الوطنية التي تدمج في نسيجها الواحد مجموعة هويات تتنازل عن بعض صور تضامنها لتغليب الانتماء الوطني العام الذي يوحد الكل في بوتقة أو نسيج الوطن الواحد.
بعض ما يجري حاليا تعود مسؤوليته بدرجة أساسية إلى الدولة القطرية العربية ذاتها التي لم تسعَ لإقامة التوازن بين الهويات الفرعية داخلها على قاعدة المساواة في الحقوق والواجبات، وبلورة هوية وطنية واحدة تكون بمثابة المظلة التي ينضوي تحتها الجميع، على العكس من ذلك فإن هذه الدولة كثيراً ما سعت إلى تغليب منظومات من التضامن الفرعي، كبديل للتضامن الكلي أو الجمعي، مؤسسة على الولاءات، وفي كثير من الحالات لا يدور الحديث عن بناء الوطن الذي يتساوى أبناؤه في كل شيء، وإنما عن توزيع حصص التمثيل الطائفي والسياسي، حتى لو تعارضت مع الطموحات الوطنية المشتركة أو العامة.
ما نحن بصدده اليوم من انفجار مروع للهويات الفرعية، وتشظٍ للهويات الوطنية الجامعة، يحملنا على إمعان النظر في الحدود الفاصلة بين الاعتراف بحق الهويات الفرعية، من حيث هي مكونات ثقافية أو دينية أو لغوية، في الاعتراف بها، وبين أن يؤدي هذا الاعتراف إلى تغول هذه الهويات على بعضها، أو تغول إحداها، كبراها خاصة، على الهويات الصغرى.
في هذا السياق علينا أيضا ألا نتجاهل فكرة الهويات الجريحة التي نجد أصحابها مندفعين في ما يشبه الثارات لأنفسهم من ظلم أو إجحاف أو تمييز لحق بهم، في ردود فعل قد تبلغ حد العنف، في مجتمعات لم تعتد أن تتعامل مع مكوناتها المختلفة بروح المساواة ومنطق المواطنة المتكافئة التي تتخطى تفاصيل الانتماءات الفرعية. والتجربة الإنسانية المديدة تدل على أن أية هوية يتعرض أصحابها للاضطهاد، تستنفر في داخلها آليات مقاومة عنيدة، تحت ضغط غريزة البقاء. وإن بدا ظاهرياً، وتحت تأثير القمع، أن هذه الهويات قد انكمشت على نفسها وربما تعرضت للذوبان، فإن ذلك لن يعدو كونه وهما، فكل ما في الأمر أنها تتحين أقرب فرصة للتعبير عن نفسها مجددا فتعود بقوة غير معهودة.
هذا يجرنا إلى الحديث عن دور المثقف العربي في عالم متحول، هل تجد هذا الدور متحققا، في وقت اختار المثقف العربي الهروب إلى الأمام وعدم مواجهة معضلات واقع أوطانه المريرة؟
علينا أن نعترف أن المناخ الثقافي العربي الراهن يشهد ردة إذا ما قورن الحال بما كان عليه في مراحل سابقة، وتتغلغل في جنبات حياتنا كل مظاهر وقيم السلبية والتخاذل والاغتراب والشعور العميق بالانكسار، مقابل صعود، لسنا هنا بصدد بحث طبيعته وأسبابه وآفاقه، لرؤى ومواقف فكرية تغطي الفراغ الذي نشأ بسب الوهن الذي اعترى مشروع النهضة العربية بروافده وتلاوينه.
ولكن هذا الاعتراف شيء، والدعوة إلى العبثية والعدمية واللاجدوى شيء آخر، حتى لو سلمنا بمشروعية القلق الذي يحفز عليها، حين تُرمى كل الأفكار والأسماء بالفشل، وهذا قد يدفعنا للتساؤل عن الموقف الواجب اتخاذه تجاه ميراثنا الفكري الذي سيكون من التعسف رميه بالتحزب أو بالانتماء الأيديولوجي الضيق، فماذا سنفعل بتراث الطهطاوي والكواكبي وطه حسين وسلامة موسى وغيرهم الكثير؟
ولا يمكن أن نغفل أن بعض "المراجعات" العربية لدور المثقف ليست معزولة السياق عن الدعوات العامة على صعيد كوني، تبشر بنهاية الثقافة الجادة في ظل سيطرة ثقافة المتعة والاستهلاك . لكن حتى في الغرب تدعو الفعاليات الثقافية الحقيقية إلى تشكيل ما تدعوه "جزرا" للثقافة وسط هذا المحيط الاستهلاكي الواسع.
يرى سارتر أن المثقف هامشي على صعيد الانتاج، فهو ليس عاملاً يدوياً ولا رأسمالياً، دائرة نفوذه هي "الوعي" الذي لا يعترف بأهميته أحد . وبهذا التوصيف يكون سارتر قد حدد مواصفات هذا المثقف الذي لا يرتاح لما هو منجز ويضع المسلمات موضع المساءلة والشك، ولا يقف عند حدود معرفته وتخصصه العلمي ويذهب إلى ما هو أبعد منها. إنه ضمير لأنه مفعم بالمسؤولية وبالحس الإنساني العالي، وهو شقي لأنه لا يركن لليقين، ويتميز بالعقل الناقد والقلق، حين تكون الحقيقة لديه مفتوحة متجددة وليست وثوقيات نهائية.
البحرين، بلد لإنتاج المعرفة والحركات الثقافية الطليعية في منطقة الخليج العربي، مع عدد من أسمائها الكبيرة، أما يزال هذا الدور قائما؟
لا أريد القول إن هذا الدور ضعف، إنما هناك تبدلات في المشهد الثقافي ناشئة فيما أرى عن تبدل الظروف، فالبيئة التي أطلقت الأسماء الكبيرة في الإبداع البحريني بين الستينيات والسبعينيات في القرن الماضي حلت معها بيئة أخرى، مختلفة في الكثير من تفاصيلها وملابساتها وحساسياتها. لكن مسيرة الإبداع لم تتوقف في البحرين، هناك وجوه وطاقات إبداعية مهمة تقدم منتوجا لافتاً. وأنا واثق من أن وطننا معطاء، وأنه يختزن الكثير من المواهب والطاقات الواعدة التي ينتظرها مجد إبداعي. كما أن تقاليد الحركة الثقافية والإبداعية في البحرين هي من الرسوخ والقوة، بحيث تؤهل هذا الوطن لأن يقدم عطاءات جديدة منتظرة في مجالات الإبداع المختلفة، خاصة مع ما يتوفر لدينا من دينامية عالية لمؤسسات المجتمع المدني وحيوية النشاط السياسي الذي لا تجد له نظيراً، بنفس الاتساع والدرجة، في بقية مناطق الخليج، مع أن الإنصاف يقتضي القول إن بلدان الخليج العربي الأخرى تشهد تفتح مواهب مهمة في مجالات الإبداع، لا تقل، إن لم يتفوق بعضها، على مثيلاتها في البحرين.
انخرطت بكل عمق في صياغة السؤال الثقافي في المنطقة، ويكاد القارئ يجد خيطا ناظما في كل ما تكتب: الانتصار للحرية والديمقراطية ومهاجمة التعصب وذيول التكفير، ما هو ثمن هذه المواقف عليك ككاتب ومثقف خليجي وعربي؟
تحدثتُ بشيء من الإسهاب في كتابي "ترميم الذاكرة"، وهو بمثابة فصول من سيرتي الذاتية عن الضريبة التي دفعتها لقاء مواقفي مذ كنت شاباً يافعاً، وهي ضريبة دفعها كل أبناء وبنات جيلي، وكذلك الجيل الأسبق، ممن سلكوا الدرب نفسه، بين السجون والمنافي، بل إن بعضهم فقد حياته تحت التعذيب.
في ظروف اليوم نواجه، ما دعيته مرة في أحد مقالاتي بمحنة القوى المدنية العربية، التي تجد نفسها أمام استقطاب جديد غير الذي اعتادته في عقود سابقة، يوم كانت تتصدر النضال في مواجهة الاستبداد ومن أجل بناء مجتمعات ديمقراطية خالية من الفساد، فإذا بها تجد نفسها قليلة الحيلة أمام استبداد مزدوج، واحد يمسك بمفاصل السلطة ويذود عن بقائه فيها بكل ما له من مخالب، ومعارضات تنطلق من مرجعيات مختلفة وببرامج اجتماعية غير عصرية، تهدد منجزات التنوير العربي التي انتزعت بشق الأنفس.
تؤكد على أن انحسار الفضاء العمومي يمكن أن تكون له آثار وخيمة في علاقة الدولة بالمجتمع، لماذا يضيق هذا الفضاء في العالم العربي، وكيف تمكن استعادته كفضاء للحوار البناء؟
انحسار الفضاء العمومي في العالم العربي ناجم عن تضخيم دور الحكومات التي بما في أيديها من قوة تقوم باختراق المجتمع المدني وتحويل مؤسساته إلى تنظيمات تضامنية تعمل كامتداد لأجهزة الدولة، فيما المجتمع المدني في الأحوال الطبيعية يجب أن يكون مستقلاً ونابعاً من الإرادة الحرة للأفراد المنخرطين في مؤسساته، ولدينا في البحرين تجربة غنية في هذا المجال، فجمعيات الأطباء والمهندسين والمحامين وغيرهم من الفئات، وكذلك المؤسسات المعبرة عن الأدباء والمسرحيين والتشكيليين، وأيضاً التنظيمات النسائية، فضلاً عن الحركة النقابية إنما أتت أساساً من قلب المجتمع، ولم تكن الدولة هي من شكلها أو حتى أوعز بتشكيلها، بل إن بعضها واجهت، وما زالت، صعوبات في الحصول على الإشهار الرسمي، ويتعرض الكثير منها، اليوم، لمحاولات التطويع ما يهدد طبيعتها المستقلة عن الدولة، رغم أن الكثير منها بعيد عن الغائية الحزبية.
للتطور الصحي للمجتمعات ولتنظيم العلاقة الصحية بين الدولة والمجتمع، نحتاج إلى توفر وتوسيع هذا الفضاء العمومي الذي يشير إليه السؤال، لأنه الأقدر، بحكم استقلاليته، على إثارة الأسئلة الكبرى وممارسة أدوار مهمة في قضايا التنمية والتحول الاجتماعي والثقافي، وهو من هذا الموقع، لا يكون، بالضرورة، في موقع الخصومة مع الدولة، بل إن دوره المستقل مفيد لها حين يكف يدها عن التدخل في قضايا ليست من اختصاصها، ففي مثل هذا التدخل نزوع نحو الشمولية والإقصاء، وتجاهل لما في المجتمع من تعددية وتنوع.
للأسف، نرى أنه يجري اليوم توظيف وسائل الاتصال الحديثة لخدمة أغراض هي على النقيض تماما من الفكرة التي يراد للفضاء العمومي الحديث أن يلعبها كوسيط بين الدولة وبين المجتمع المدني، لتتحول إلى محرض على إثارة النزعات المذهبية والعرقية والطائفية، لا بل وإشاعة منهج التكفير وتحبيذ الإرهاب والتطرف، وتمزيق المجتمعات وتقويض بنية الدول بدلاً من دمقرطتها وإصلاح أحوالها.
في أكثر من مناسبة تشير إلى أن الفرق بين الشعار والممارسة في العالم العربي شاسع جدا، هل هذا أحد أسباب تخلفنا وفشل مشاريعنا؟
عد إلى شعارات: لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، وأنه لن يهدأ للعرب بال حتى يحرروا فلسطين، وأن فلسطين قضيتنا المركزية، وأنظر ما بلغناه بعد عقود على هذه الشعارات الرنانة. شبراً واحداً من فلسطين لم يتحرر، بل حتى المساحة التي كانت متبقية من الأرض الفلسطينية كي تقام عليها الدولة المنشودة، تقضم يومياً من قبل الاحتلال عبر زنار المستوطنات الزاحف، ما يجعل قيام مثل هذا الكيان الفلسطيني، حتى ولو في صيغة أقل من الدولة، غير متاح فعلياً.
عد إلى شعارات التنمية والتطور الاقتصادي، وانظر أين بلغنا من حالات الإفقار الواسع للشعوب، واتساع الفجوة بين الثراء البذخي الفاحش الناجم عن المال الحرام الذي تستحوذ عليه حفنة صغيرة من المتنفذين والماسكين بزمام الأمور، وبين الفقر الذي يزداد اتساعاً ويطاول أوسع الفئات الشعبية، حيث تزداد الفئات الوسطى تآكلاً واضمحلالا، وتتراجع أداور من يصنفون اليوم في خانتها، عن الدور التنويري التقدمي الذي اضطلعت به في مراحل مختلفة، إلى الدور المحافظ المعيق للتقدم.
عد إلى شعارات الحرية والديمقراطية، وانظر إلى مستويات الاستبداد وتقييد الحريات، لا بل ومصادرتها تماماً في الكثير من الحالات، حيث تتضخم ترسانة التشريعات الكابحة لها، وتزداد عنفاً وقسوة التدابير والإجراءات التي يتعرض لها العاملون في مؤسسات المجتمع المدني.
أليست كل هذه أمثلة على الفجوة الواسعة بين الشعار والممارسة، وهو أمر يطاول حتى القوى المصنفة في خانة المعارضة أو البديل المفترض، التي ما أكثر ما تتناقض ممارساتها مع ما تطرحه من شعارات.
لو طلبت منك أن تحلم، في ظل هذه اللحظة الكابوسية، هل يسعنا أن نرى عالما عربيا أفضل تتحقق فيه شروط المواطنة الحقة والكرامة والحرية؟
أنا من المتمسكين بمقولة أنطونيو غرامشي: "تشاؤم العقل، وتفاؤل الإرادة" ، فنظرة موضوعية على ما نراه اليوم تحملنا بالتأكيد على التشاؤم في أن نرى مستقبلاً واعداً في الأفق المنظور في غياب المشروع الوطني الخاص بكل دولة عربية، وغياب المشروع القومي العربي الجامع، وانهيار الدولة الوطنية ذاتها في بلدان مفصلية، وتعمق الانقسام المذهبي في المجتمعات العربية الذي من مصلحة اللاعبين الإقليميين تعميقه وتجييره لأهدافهم.
لم يعد أحد يتحدث عن المشروع القومي العربي الذي تربت عليه أجيال منذ بواكير الفكر النهضوي العربي، وغابت الروافع الاجتماعية والفكرية والهياكل الحزبية والتنظيمية الحاملة لهذا المشروع أو توارت، فوجدت القوى السياسية الناشطة، وجُلها تمثل الإسلام السياسي بكل تلاوينه، ضالتها في التعلق بمشاريع ليست مشاريعها الخاصة وإنما هي مشاريع لدول أخرى، من مصلحتها أن يظل العالم العربي مجزأ، ومفككاُ وفاقداً للإرادة السياسية.
والمؤمل أن يكون الظرف الموضوعي الناشئ اليوم رافعة للقوى والتيارات المدنية والتقدمية التي تقاعست طويلاً عن أداء دورها، لتذود عن برامجها الاجتماعية في الدفاع عن مصالح شعوبها، والمعبرة عن شرائح المجتمعات كاملة، بديلاً لبرامج زعماء الطوائف، حيث ينشأ اليوم جيل عربي جديد منفتح على المعرفة ووسائل الاتصال الحديثة، لكنه محبط من انسداد الأفق أمامه، يرنو إلى دور هذه القوى المدنية لتأخذ به نحو المستقبل.
لا يمكن للمنطقة العربية، والخليج العربي جزء منها، أن تبقى خارج استحقاقات هذا العصر، حيث كل مناطق العالم تحولت نحو البناء الديمقراطي ونبذ الشمولية، بشكل نبدو معه حالة شاذة في عالم اليوم، ولا مفر أمامنا من ولوج الاستحقاق الديمقراطي الذي لن يحل مشاكلنا وحده دفعة واحدة، ولكنه سيتيح الآليات والميكانيزمات الضرورية لمعالجة هذه المشاكل والتغلب عليها.
مرجل الغضب
على الرغم من التحفظات الوجيهة التي يمكن أن تثار حول مصطلح "الربيع العربي"، فإني أرى في الطوفان الذي شهدناه قبل خمسة أعوام في كثير من البلدان العربية تعبيراً عن توق الشعوب إلى إنهاء الاستبداد والاستغلال والظفر بالديمقراطية والحرية. فعلياً ما من بلد عربي لم تطاوله موجات ونسائم ذلك التحرك في بداياته، وكان ذلك رداً على ما بلغته الأوضاع في البلدان العربية من تردٍ على غير صعيد. ليست مؤامرة أميركية أو صهيونية أو إيرانية أو تركية هي من أخرجت الجماهير الغاضبة الناقمة على أوضاعها في كل هذه البلدان، وإنما لأن مرجل الغضب بلغ حد الغليان، رغم أن مسار هذا "الربيع" سرعان ما انتكس، وبرأيي أن هناك ثلاثة عوامل تضافرت ليحصل ما حصل. أولاً: متانة مواقع الاستبداد في العالم العربي وخبرتها الطويلة، ثانياً: ضعف مؤسسات المجتمع المدني الحديثة وضآلة دور القوى الوطنية والتقدمية وهامشية دورها ما عنى غياب الحاضنة الديمقراطية القادرة على توجيه هذه التحركات في وجهة وطنية جامعة، وتجنيبها الانزلاق نحو شعارات وممارسات فئوية، ما مكَّن قوى الإسلام السياسي من الهيمنة على الشارع ومصادرة الانتفاضات، مع أن القوى الإسلامية في الكثير من الحالات لم تلتحق بالتحركات إلا لاحقاً، ثالثاً وأخيراً: الدور المشبوه الذي لعبه الغرب ودول الناتو من جهة، والقوى الإقليميىة صاحبة المصلحة في عسكرة الانتفاضات والدفع بها نحو الحرب الأهلية من جهة أخرى، سواء بالتوافق فيما بينها، أو بالتواطؤ الضمني.
باختصار:
يشكل الدكتور حسن مدن مع مجموعة من الكتاب والأدباء رموز نهضة ثقافية في البحرين، واستطاع مع جيله أن يبصم بقوة في المشهد الثقافي الخليجي والعربي.
.......
صدر له مؤخراً كتاب "الكتابة بحبر أسود" ويبسط من خلاله مجمل آرائه في الكتابة والمجتمع والثقافة والفن والحياة، يعبر عن انخراط الكاتب في الدينامية التي يعرفها المجتمع في البحرين وفي الخليج والعالم العربي.
.....
من أهم كتبه، يمكن أن نذكر "الثقافة في الخليج، أسئلة برسم المستقبل"، و"مزالق عالم يتغير" و"لا قمر في بغداد، قبل الحرب- بعد الحرب" و"تنور الكتابة"، وغيرها من الكتب التي تعكس تنوع انشغالاته وأفقه المعرفي.