حسن حفّار: الشهباء في وداع نشيدها

25 مارس 2020
سليل عائلة من المشايخ (فيسبوك)
+ الخط -
قبل يومين، ودّعت حلب المنكوبة، مُثخنةَ الجراح، المُنشد الشيخ حسن حفار، أبو أديب. عميد التوشيح الحلبي وقامة من قامات التجويد القرآني والإنشاد النبوي، الذي اشتهرت به المدينة الشامية العريقة، عاصمة الشمال السوري، منذ باكر العصور الإسلامية. كان الشيخ حسن قد وُلد في "ساحة بزّة"، من أحياء حلب القديمة، عام 1943، عاصر وزامل أسماء حلبية برّاقة، أهمها الراحل صبري مدلل (1918-2006)، حيث سلك الاثنان معاً درباً مُزهراً مُثمراً، رسم صورة بهيّة لمدينتهما حلب، على مرّ عقدٍ طويل من الأماسي والحفلات الداخلية والخارجية.

حلب بالنسبة إلى الشيخ حسن كالماء للسمك؛ بين زواياها وتكاياها كبر وتربّى، وعلى أذكارها الصوفية غنّى وحفظ الأدوار والموشّحات القديمة قِدم المدينة. "من حسن إلى أحسن"، على حدّ تعبيره، بفطرة شعرية وفِطنة مجازية، جسّد الشيخ بسلوكه الفني مبدأ التجاوز الصوفيّ، أبدى التواضع وأنكر الذات الفنية. لم يُحب سماع ما سجّل، بل، وفي كل أمسية سيُحييها، وضع في قلبه ونُصب عينيه، وأذنيّ كل من يستمع إليه، البذلَ في سبيل المزيد من الإجادة، والفريدِ من الإتقان والإفادة، مدفوعاً بفرض خدمة تراثه، والإحسان في إخراجه والحفاظ عليه، والسير على تعاليم من سبقه إليه وعلّمه لمن بعده، تقرّباً من الله.

مع كوكبة من صُحبة الحارات الحلبية، ورفقة التواشيح والمدائح النبويّة، أمثال عمر النبهان وعبد الرؤوف الحلاق، ابتدأ الشيخ حسن مسيرة الإنشاد الجماعي. شكّل مع من سبق ذكرهم معاً، ولا سيما الحاج صبري مدلل، فرقة "مؤذني حلب"، جابت الأصقاع، وحازت الأنظار والأسماع، حيثما حلّت وأينما ارتحلت. تميّز فيها الشيخ حسن بسعة صوته ودفئه، علاوة على إجادته العزف على المزهر والدف، وإتقانه الإيقاعات العربية الدارجة والكلاسيكية. إجادةٌ وإلمامٌ، جعلا من القرع على المزاهر، سمة ثابتة مُميّزة رافقت مسيرته، إلى حين تأسيس جوقته الخاصة.



عَرفه أهل حلب القديمة، من اعتلائه مئذنة جامعها الأموي الكبير عصرَ كل يوم، ولمدّة تزيد عن ثلاثة عقود مُتصلة. أصغى كل من أمّ المسجد، أو كان في الخان، ماشياً بمحاذاة الحجارة الكلسية البيضاء، أم جالساً عند عتبة الدكان في أحد الأسواق المسقوفة الضيّقة، الكل شدّ الآذان، كلما صدح الشيخ وعلا الأذان. سُمع من تحت القناطر وداخل البيوت وفي الأرجاء، من القلعة شرقاً إلى باب أنطاكية غرباً. تفنن المؤذّن في اختيار المقامات والنغمات. ولشدّ ما اشتُهر برفعه الأذان على نغمة الحجاز.

سليل عائلة من المشايخ، لا تزال لهم زاويتهم الخاصة، والمعروفة في حلب بـ"زاوية الحفار". تردد الشيخ حسن، منذ أن كان طفلاً، على الزوايا الشهيرة، كـ"الهلالية"، لأتباع الطريقة القادرية. شكّلت تلك الأمكنة بالنسبة إليه، وإلى مُجايليه من أمثال صبري مدلل وصباح فخري، مدارسَ دينية، أدبية وموسيقية، ومجالس أتاحت فرصة الوجود في حضرة أساتذة التوشيح الكبار، كالمُنشد صبري الحريري، وعبد القادر حجار الذي أطلق مشوار حسن الحفار في مدينة حلب، ثم إلى خارجها.

جمع الشيخ حسن بين التزام القيم المُحافِظة، وإظهار الحيوية والانفتاح. لم يرم غترة المشيخة يوماً ولم يخلع ثوبه التقليدي. لم يرتدِ البزّة وربطة العنق إلا في ما ندر، ولم يعتمر الطربوش. ظلّ له موقف مُتشدد إزاء إدخال الآلات الموسيقية على الإنشاد. كما ظل مُؤكداً على وجوب السير على خُطى الأولين، من جهابذة المُنشدين الحلبيين. تجلّى انفتاحه، وذلك لنهجٌ توشيحيّ حلبيٌّ معهود، في تقبّله فكرة الغناء الدنيوي بجانب الديني، فعُرف عنه أداؤه المُتميّز لأغاني السيدة أم كلثوم، كما انفرد بمدائح عابرة للمذاهب الإسلامية، وحتى الأديان السماوية. فأنشد مادحاً "علي أبو الحسن"، كما غنّى مراراً في حُب السيدة مريم.



تقوم المدرسة الإنشادية الحلبية، بحسب الشيخ حسن مُستلهماً قاموسَ الصوفية، على ثلاثة أركان؛ الشوق والذوق والجوق. الشوق إلى المغنى بقدر ما يكون إلى المعنى؛ فالشوق إلى النغم والتوق إلى الإنشاد، يحترق بالشوق إلى المولى والتوق إلى ذكر نبيّه. أما الذوق، فهو الرؤية القلبية المُنبعثة من الكلمات السابحة في البحور الشعرية، تقتضي حُسن الاختيار للنصوص والأشعار. فيما الجوق، هو إتقان فنون الصوت فرداً وجماعة، والدَربة على فروع المقامات وأوزان الإيقاعات، والدراية بأصول الأدوار والموشحّات.

من القلب إلى القلب، شعارٌ لطالما ردّده الشيخ حسن وأكد عليه. وفاءً، مقابل هباءِ ما يروح من اللسان إلى الآذان. فالقلوب دروب صافية وجسور نورانية، فيما المخارج والمسامع محض أدوات ووسائط لا تدرك غايتها ما لم تكن الرسائل قلبية، والفوائد عشقية. لا يجوز أن تقف عند النشوة الطربية والمُتعة السمعية، وإنما لا بد لها من أن تصل الإنسان بالإنسان، وتعبر من الوجدان إلى الوجدان، وأن تزرع في النفس بذرة الإيمان. المُنشد، بحسب الشيخ حسن، يُسعِد بقلبه لا بصوته، وُيطرِب بروحه لا بحنجرته.

ظفر الشيخ حسن باهتمام مراكز البحوث الاستشراقية. فما كان من واحد من أهمها، ألا وهو معهد العالم العربي في باريس، إلا أن أنتج للشيخ ألبوماً، أُدرج في إصدار أنطولوجي عن ألوان الموسيقى التقليدية في العالم العربي. أُصدر عام 2009، وسُمّي "وصلات حلب". تم اختيار الموشّحات والأدوار المُسجّلة لتمرّ بالمقامات الرئيسية، والأهم من بين الفرعية. ترافق الإصدار مع عدّة زيارات قام بها الحفار، إضافة إلى صبري مدلل، لفرنسا، حيث غنّى على مسارح كل من مدينة ليون، والعاصمة باريس.

جرت العادة الفكرية، ولا تزال تجري، في التأكيد على وجوب الفصل والتمييز بين الصوفية كفلسفة وأدب، والدروشة المُتمظهرة في الرقص والغناء. ينادي بذلك مُحافظون مُتزمّتون، ليسوا بالضرورة من المُتديّنين وإنما ممن يجهدون في إبراز الجديّة الفكرية لدى الصوفية في الكتابة والممارسة. لا يجدر بذلك أن يقطع الخيط الرفيع والبديع، المُمتد من جلال الدين الرومي، مروراً بعمر البطش، وصولاً إلى الشيخ الحفار؛ مع أن "أبو أديب" ظلّ أميّاً، إلا أنه حفظ لحلب وللعالم إرثاً شعرياً، غنائياً وثقافياً، يُدرك عمق الحياة، يلمس جوهر الإنسان وبحثه عن الحق والحقيقة، يبقى من الذخائر النفيسة، مهما تكن المرّات التي دُمّرت فيها حلب، ثم بُنيت وعُمّرت.
المساهمون