مع "143 شارع الصحراء"، يجتاز المخرج الجزائري الشاب حسان فرحاني (33 عاماً) اختبار الفيلم الثاني، مُقدّماً أوراق ثبوته كأحد ألمع الأصوات الجديدة في السينما الوثائقية اليوم، ومؤكّداً وعود جوهرته الأولى "في راسي رونبوان" (2015)، أي "في رأسي مدار".
وحدة جمالية لافتة للانتباه، تجمع العملين رغم تباين فضاءيهما واختلاف الطرح، ما ينمّ عن رؤية خلّاقة لديه، ترتكز على تصوير الفضاء (المذبح، الصحراء) وفق تصوّر الـ"ميكروكوزم"، فنرى بفضله تلوينات الشخصية الجزائرية، وهمومها وهواجسها والحسّ المميّز لطرافتها.
ينكبّ فيلمه الثاني على يوميات مليكة، المرأة الستّينية، التي تعيش وحيدة في مطعم شعبي في قلب الصحراء الجزائرية، والتي تستقبل فيه مرتادي الطريق، الباحثين عن استراحة وطعام قبل استئناف الطريق الطويلة. يُقطّر الفيلم السينما الخالصة من مَشاهد تبادل مليكة أحاديث مع ضيوفها تارةً، ومن لحظات وحدتها التأمّلية والحميمة، رفقة قطّتها ميمي، تارةً أخرى. الحسّ المذهل للإنسانية يجعل القطّةَ شخصيةً قائمة بحدّ ذاتها، ويتوقّف طويلاً عند لقطة تداعبها فيها مليكة وسط سكون الصحراء، وهذا يفصح عن أحد أسرار جاذبية "143 شارع الصحراء".
بمناسبة عرضه في الدورة الـ18 (29 نوفمبر/ تشرين الثاني ـ 7ديسمبر/ كانون الأول 2019) لـ"المهرجان الدولي للفيلم بمرّاكش"، التقت "العربي الجديد" حسان فرحاني في هذا الحوار:
(*) كيف التقيت مليكة؟
بعد "في راسي رونبوان"، أردتُ صنع فيلم طريق، يمزج بين الوثائقي والتخييلي، مع شخصية تهيم في الصحراء الجزائرية. الجزائر بلد شاسع. هناك الكثير لنراه في أراضيها الممتدّة. كنتُ أسلك طريق الصحراء رفقة صديق يُدعى شوقي عماري، ألّف كتاباً رائعاً بعنوان "الطريق الوطنية رقم 1"، سجّل فيه كلّ ما رآه في رحلةٍ انحدر فيها من الجزائر إلى تمنراست. لذلك أردتُ كتابة فيلم الطريق معه. هو حاضر في "143 شارع الصحراء"، تحديداً في مشهد غرفة الزيارة، الذي يحيل إلى السجن. شوقي جعلني ألتقي مليكة، عندما توقّفنا في مقهاها. عندها، كانت نبضة القلب الفورية. شيء ما أخبرني أنّ فيلمي هناك. انتابني إحساس بأنّ عليّ التوقّف هنا، وبأنّ فيلمي في هذا المقهى تحديداً.
مليكة مدهشة. شخصيّتها أثّرت بي كثيراً. حضر اللقاء أيضاً سائقو شاحنات. مكثنا عندها نحو ساعتين. سألتُ مليكة فوراً: "أيُمكنني صنع فيلمٍ معك؟". لم تتردّد في القبول. بعد ذلك، التقيتُ منتجتي: "دعينا نترك فكرة فيلم الطريق جانباً. أريد فيلماً مع مليكة". أحد الأشياء التي أدهشتني، عندما جلسَتْ قبالة الباب، والباب يشبه شاشة سينما، وهي تحكي ما يجري. أذهلتني هذه الصورة التي تأثّرت بها كثيراً. بعد شهرين، عدتُ إليها رفقة مهندس الصوت. أمضيت نحو شهرٍ ونصف الشهر في تصوير الفيلم.
(*) رغم أنّها أول شخصيات الفيلم، إلا أنّكما لم تتصوّرا معاً، فأحد النوابض الرئيسية تصوير الذين يمرّون على المقهى.
بالضّبط. بالنسبة إليّ، يُمثّل فضاء مليكة أشياء عديدة ومختلفة. عندما كتبتُ ملف الإنتاج، أصررت فيه على هذا الجانب. إنّه بالفعل مساحة لـ"الأغورا" والديمقراطية، حيث يُمكن للجميع قول ما يريدون قوله في جوّ من التقبّل والاحترام. رأيتُ مليكة كقديسة أيضاً، أو "لالّة" (السيّدة الفاضلة ـ المحرّر).
(*) قيل ذلك في إحدى لحظات الفيلم.
نعم. هناك جانب غامض فيها يجعل المكان نوعاً من "زاوية" (ضريح للتبرّك ـ المحرّر). هناك أيضاً قصّة محطّة البنزين، التي يتمّ بناؤها على بعد 50 متراً من منزلها، والتي أضفتْ شيئاً من الدراما على قصّة الفيلم. اعتمدتُ قليلاً على هذه الدراما، لأقول أيضاً إنّ هناك عالماً جديداً يحلّ مكان القديم.
(*) ما يعجبني حقاً في قصّة محطّة البنزين كيفية تطرّقك إليها في الخلفية، رغم أنّها رهان مهم في السرد. لا نشعر، كما في معظم الأفلام الوثائقية، أننا بصدد مخطّط ينفرد أمامنا.
بالضّبط. بالإضافة إلى ذلك، أفضّل، عندما أحقِّق فيلماً وثائقياً أحبّذ تسميته "فيلماً بواسطة الواقع"، ألا أحجم عن أي وسيلة للسينما. يمكنني استخدام الوسائل كلّها لقصّتي، طالما أنّي لا أتحايل. لستُ خائفاً من كلمة "ميزانسين" في الوثائقي، عندما أشتغل على الواقع. على غرار مشهد السجين مثلاً، الذي تمّ الاتفاق عليه مسبقاً. كنّا نتحدّث، فقالت مليكة: "غريب. يبدو هذا كأنّه سجن". فأجبتها: "لننجز مشهداً على هذا النحو".
(*) استعارة السجن مهمّة برأيي. فرغم حقيقة أنّ الفيلم منفتح على الفضاء الطلق، نشعر أنّنا محبوسون، وأنّنا في جمالية الـ"ميكروكوزم"، كما كان الأمر مع المذبح في "في راسي رونبوان".
أحبّ حقّاً الفضاءات المغلقة المفتوحة على العالم، والأماكن الثابتة التي تحاول أنْ تتجاوز مداها المسدود، لتفكّر بالعالم. شخصياتي هي، من دون ادّعاء، أناس يفكّرون في المحيط، ما وراء مكان تواجدهم. يمكن تلخيص هذا الفيلم بمليكة، التي هي في قلب العالم، بحكم أنّها وسط الجزائر، تتابع انطلاقاً من مقهاها العالم المحيط بها. بالإضافة إلى أهمية الاختيار الحازم لعدم مغادرة المقهى. هذه حياتها. لا تغادر المقهى أبداً. تعمل هناك وتنام هناك وتستقبل الناس هناك. حياتها تنحصر في بقعة مساحتها 20 متراً مربعاً.
(*) التّباين الآخر المثير للاهتمام، مقارنة بـ"في راسي رونبوان"، كامنٌ في أنّ هذا الأخير يعتمد على جمالية الامتلاء، فهناك دائماً لقطات مشبعة إلى حدّ ما باللّحوم والآليات والأشخاص وأغراضهم. بينما يعتمد "143 شارع الصحراء" على الفراغ، وهذا ينعكس على الشعور بخواء يوميات مليكة.
هذا فعلاً مُثير جداً للاهتمام. ما أجده لافتاً، رغم أنّي لم أفكر به فوراً، هو أنّ هذين الفيلمين يشبهان الشريط السلبي والإيجابي لفيلم ما: الأول فيلم ليلي، والثاني يجري في واضحة النهار. أركّز في الثاني على امرأة، بينما الأول فيلم رجال. هناك كما قلتَ فراغ الصحراء، وكذلك أفقيتها، مقارنةً بالحركات الرأسية للّحوم في "في راسي رونبوان".
(*) المهم أنّك شعرت بهذا، لكنّك لم تتعمّده. لهذا السبب، جاء بهذا الشكل الصادق.
بالتّأكيد. بعد ذلك، كان هناك اختيار حاسم آخر، يتمثّل في تجنّب الإفراط في تخيّل الصحراء، فمن السهل للغاية التقاط الكثبان الرملية وغروب الشمس... إلخ. لكن، كان عليّ دائماً أنّ أظلّ مُركّزاً على مَعلم الفيلم، الذي تمثّله بناية المقهى، كي أقطع مع الصورة الكليشيه للصحراء. الجميع لديهم تصوّراتهم الخاصة عن الصحراء. أنا أصنع تصوّري، لكن بناءً على رؤية مليكة ونظرتها الخاصّة للصحراء.
(*) أريد التحدّث معك عن مشهد أحببته، عندما تلتقط الكاميرا وتنجز لقطة بزاوية 360 درجة حول المقهى. أمر غير مسبوق بالنسبة إليّ. اعتدنا رؤية هذا في أفلام روائية، كما عند ثيو أنغلوبولوس مثلاً.
أحبّ هذا المخرج.
(*) لكنّنا لا نجرؤ على فعل أشياء مثل هذه في فيلم وثائقي.
كما أخبرتك في البداية، أنا لا أحرم نفسي إطلاقاً من أيّ وسيلة سينما. فكّرت في هذه اللقطة عندما قرأتُ في كتاب، منذ مدّة، كيف توجد زاوية في جنوب الجزائر، بالقرب من منطقة عين صالح. أعتقد أنّ هذا يحدث أيضاً في زاويات أخرى، حيث ينبغي عليك أن تدور ثلاث مرّات حول البناية، لإلقاء التحية قبل دخول الزاوية. عندما قرأتُ هذا، قلتُ لنفسي: "هذا جميل". دوّنت هذا في دفتر الملاحظات. عندما وصلتُ إلى منزل مليكة، كان واضحاً لي أنّه يجب القيام بالأمر نفسه. اللقطة مهتزّة، بحكم وجود حجارة كثيرة حول المنزل، وعدم توفّر إمكانات بحوزتنا لإنجاز "ترافلينغ". لذا، صوّرنا اللقطة بواسطة السيارة. عندما كنتُ أقودها ورأيت الاهتزازات، اعتقدتُ أنّ الأمر لن ينجح أبداً.
(*) لكن قرار مرافقة المشهد بموسيقى "البندير" لعب دوراً مهمّاً برأيي، لأن الجانب الفوضوي يناسب هذه الموسيقى، كالقفّازات.
هذا ما تنطوي عليه الكتابة في مرحلة المونتاج في الواقع. هي تسمح لك بلعب نوع من كرة الطاولة مع المادة المصوّرة، وتجربة الأشياء بعيداً عن مكوّن الذهنية. أنْ تختبر أحياناً أشياء بمنطق يشبه فنّ الـ"كولاج"، أيْ أنْ تقوم بلصق شيئين لا يوجد بينهما أي صلة مسبقة ظاهرياً، لكنهما سيشتغلان معاً. هكذا اشتغلت الموسيقى فعلاً، مع جانب الفوضى الكامن في اللقطة.
(*) كيف عملت على المونتاج تحديداً، خاصّة أنّي قرأتُ في الـ"جينريك" أنك أنجزته مع 3 أشخاص.
حقيقةً، كنتُ حاضراً طوال الوقت. هناك نادية بن رشيد، التي أتت لـ10 أيام لإلقاء نظرة على المونتاج. لم تقم بالمونتاج عملياً في الواقع.
(*) كانت بمثابة عين جديدة؟
تماماً. بعد ذلك، عملتُ مع موضّبتين مختلتفين فترة طويلة. اضطررت للعمل لشهرين ونصف الشهر مع كلّ واحدة منهما. كيف اشتغلنا؟ بالنسبة إليّ، كلّ فيلم مغامرة مونتاج مختلفة. في مونتاج "في راسي رونبوان"، شاهدتُ المادة المصوّرة مع المونتيرة، لكنّي قرّرت عدم القيام بذلك في هذا الفيلم. هذا يعني أنّي اخترتُ المادة المصوّرة أولاً قبل وصولها. فضّلت التشذيب والانتقال إلى جوهر ما أردتُ أنْ أحكيه. لذا، عند وصولها، وجدت نفسها مع مادة أقل بكثير ممّا صوّرته. بعد ذلك، أصبحت المسألة تتعلّق برؤية يجب تجديدها. لذا، عملت مع مونتيرة أخرى. هذا مهمّ لي، لأنّه يُمكن كتابة الفيلم بـ 36000 طريقة مختلفة. يمكننا إظهار مليكة بطرق مختلفة: امرأة قوية، أو ضحية. يمكننا كذلك الوقوع في الفيلم الوثائقي الكلاسيكي.