(قَال..قَال)، كنت أناديها بلغتها التركية، بينما أتناول طبق المانتي اللذيذ في مطعم حمّام الحريم القديم أمام آيا صوفيا. رأيتها لليوم الثالث على التوالي تبيع أطواق الورد في ساحات إسطنبول القديمة، تعبئ جيوبها بالليرات لأسرتها الكبيرة. جلست أمامي، بينما عيناها تدور في المكان، تتأكد من خلوه من (الكركون)، كما تقول بلغتها، أي (الشرطة)، فهم يمنعون أطفال الشوارع من إقامة علاقة مع أي سائح يتبتل في محراب اسطنبول.
قلت لها: لا تخافي، أنتِ اليوم في حمايتي. قالت والخوف يتملكها: "كل يوم يلتقطون أصدقائي، يضربونهم في الكركون، ويسرحونهم بعد تهديد شديد". أحببت ذات الوجه الذي يزهر فيه النمش كالنوّير، مريم، كما تُعرّف نفسها للعرب، أو قانسو، اسمها الحقيقي، من بين عشرات الأطفال في الشارع، طفلة بروح امرأة واعية. تدرك كيف تتعاطى مع الآخر بذكاء حاد، تبيع أطواق الورد بمنتهى الجمال، دون توسل أو استعطاف. في اليوم الأول في اسطنبول، كنا نسأل الباعة عن تحويل العملات، فأتانا صوتها الطفولي: "6 ليرة، واهد دينار"! كيف تعرف هذه الصغيرة العربية؟ كيف تملك هذه الفطنة؟
التفت إليها، سألتها عن عربيتها: "أنا تركية أعيش هنا في السلطان أحمد، في الأزقة الخلفية المهملة من المدينة، أمي ذات أصول عربية من شرق تركيا. لذا أجيد شيئا منها. طوّقت رأس صغيرتي بالورد، وودعتنا بالإنجليزية. في اليوم الثاني التقاها زوجي صدفة ودعاها إلى كوب سحلب وحوار دار بينهما عن العالم الذي تعرف. هذا النهار وبالصدفة دعوتها لطاولتي والمانتي والشاي والبقلاوة. كانت تلتهم الطعام بعينيها خوفاً من رجال (الكركون)، بين حديث وآخر تتلفت، خوفا من اصطيادها. تلتقط حبة مانتي وتدسها في فمها، تختلسها اختلاسا. كان الحديث يجري بيننا بلغات ثلاث: العربية والتركية والإنجليزية. تسألني عن أسعار العقارات والثياب وأكواب الشاي وكل شيء يتعلق بالمال في بلادي، (فيلا باسطنبول جوك برا-أي غالية جدا-. كويت فيلا ?big money) أخبرتني عن مدرستها، وشغفها بالمواد عدا الرياضيات، (بس ماتومتكس اخدت 4 من 5) كما تقول بلهجتها المتعثرة. أخبرتني عن الليل الطويل الذي تقضيه هي وأخوتها يصنعون أطواق الورد لبيعها في اليوم التالي.
مريم ليس بين يديها (آيباد) كما أطفالنا، تتذمر من قلة الألعاب فيه. لا تتناول (هابي ميل) في حفلات أعياد الميلاد التي لا تنتهي مع أصدقائها في ماكدونالدز. لا تمتلك دمى كثيرة، وألواح شوكولاته تصيبها بالتخمة. مريم تعمل في العطلة من العاشرة صباحا حتى العاشرة مساء، تتقلب بين زوار السلطان أحمد، تتعرف إلى الأميركي والإسباني والياباني والعربي، تتواصل مع الآخر وفق لغة بسيطة أتقنتها من أرصفة الشوارع ولغة الحياة على حقيقتها، تتعرض للضرب والتّحرش والإهمال كل نهار، لكنها تواصل صنع الورد، وتقنع العالم بجمال وردة.
عندما ناولني النادل، حساب الطاولة، زمّت شفتيها واتسعت عيناها، ( اوه جوك برا/ بق مني)!!
دسست في يدها مالاً، فتحت يدها، قذفته على الطاولة كخطيئة تخشى أن تُدنسها. قالت لي (No No) بخوف. أجبرتها على أخذه، فقالت لي: (كويت big بترول؟)، ضحكت على انطباعها وحساسيتها المفرطة اتجاه الأشياء عبر مقابلها المادي. قلت لها: سأمشي لـ(كابلا جارشي: السوق المسقوف)، فقالت: هل يمكنني أن أذهب معك؟ طوال الطريق كانت تشرّح لي مدينتها؛ اسطنبول، المدينة المدهشة بتناقضاتها، المتنوعة كصنوف البقلاوة في متاجرها، وتخبرني عن قيمة كل شيء يصادفنا، أسعار الشقق، والمحلات، والبيوت، والمنتجات التركية التي تباع في المتاجر الصغيرة. عندما وصلنا إلى السوق المسقوف، كانت تندهش من كل ما تقع عيني عليه، وأسأل عن سعره، (أوه، أوه جوك برا: أي غالي جداً)، اتفقت معي أن تتقدمني، تتفاوض مع الباعة، لكن لا جدوى الأسعار من وجهة نظرها ما زالت تفوق دهشتها. لم أستطع أن أبتاع شيئا معها، خجلت من ترفنا والأموال التي نستنزفها في كماليات ثانوية أمام كدحها طوال اليوم لأجل رغيف دافئ يشبع عائلتها الكبيرة. انتهى بنا الأمر في مقهى في قلب البازار الكبير، ارتشفنا معا القهوة التركية، تذمرنا من غلاء العالم لأبسط حياة يتمناها الإنسان. أبعدت عنها (حساب فنجاني القهوة) كي لا أفسد متعتها الأخيرة معي. تركتني ممتنة في طريق العودة عند (ستاربكس) السلطان أحمد، تسوّق المزيد من أطواق الورد، وتقنع العالم بجمال الوردة.
(الكويت)