حسابات باردة ووقائع ملتهبة

08 نوفمبر 2016
الأجوبة معلّقة (بولنت كيليتش/ فرانس برس)
+ الخط -

من الصعب، بل من المستحيل، رسم صورة للديار العربية بما صارت عليه أوضاعها، فالحروب لم تتوقف بعد والمعارك تدور على قدم وساق. نحن الآن نعيش في الجحيم الأعظم، والتمزق في أعنف مظاهره. كأنّ هذه الأرض لم تعرف حياة هادئة هانئة يوماً، ولم تطلق مشاعل وفتوحات حضارية في كلّ المجالات والحقول، وتبني مدناً وقرى وبيوتاً متواضعة وقصوراً باذخة، ومعابد وكنائس ومساجد ترفع فيها الصلوات لآلهة بعيدة وقريبة.

لا يلفنا سوى الخراب، ومن الصعب علينا قياس كلّ شيء نراه ويصفع وجوهنا. الهيئات الدولية تتولى تقدير أمور كثيرة: من عدد النازحين في بلادنا الواسعة إلى المهاجرين الذين يعبرون البحار والحدود، إلى الضحايا والجرحى من المدنيين والعسكريين، إلى تحديد كم من أعداد جديدة باتت تحت خط الفقر الغذائي، كي لا تخبرنا أنّ الجوع يضرب الملايين، بينما العطش إلى قطرة الماء والضمادات وحبة الدواء يصول ويجول في كلّ مناحينا.

تستطيع البيوت الاستشارية والبنوك أن تجري حساباتها الباردة على مدننا وقرانا ومنشآتنا المدمرة، وتصدر تقاريرها ودراساتها حول نسبة الدمار وضرورة جرف ما تبقى، وبناء البنية التحتية اللازمة. ثم تقدم لنا ما توصلت إليه ممهوراً بالخرائط وتقدير كميات الإسمنت والحديد وغيرها. ومن هذا كله تصل إلى إعلان الكلفة المقدرة لإعمارها.

كذلك، يستطيع خبراء الاقتصاد أن يحددوا لنا أضرار القطاعات على تنوعها، وحجم البطالة وتدني مستويات الدخل الوطني ومداخيل القطاعات الإنتاجية والأوضاع المعيشية للأسر في ضوء انهيار قيمة النقد الوطني وخراب مصادر العيش، ليبينوا لنا في أيّ درك نعيش.

لكن ما لا يقدرون عليه يتعلق بالكيفية التي ستستقر عليها المجتمعات العربية بكلّ عناصرها بعد الزلازل. فقد أبيدت أو رحلت فئات وجماعات من الناس. وهجّرت كفاءات ستجد بلداناً تستوعب طاقاتها.

ليس دقيقاً القول إنّ توقف الحروب يعني نهاية الاقتتال. الناس يتقاتلون في أفكارهم أولاً ثم في كلامهم ثم في أيديهم. والمؤكد أنّ ذاكرة الحياة المشتركة قد اضمحلت تقريباً أمام عصف الحضور الطاغي للطائفية وشتى أنواع العصبيات والغرائز، خصوصاً مع ما رافق تلك الحروب من عمليات تطهير لمن لا ينتمي إلى الجماعة الأقوى.

المجتمعات العربية أمام علامات استفهام حول وجودها وكيف تمكن استعادته. والأسئلة مطروحة سواء بقيت "داعش" أو رحلت، أم ظل نظام بشار الأسد أو اندثر. وما ينطبق على سورية والعراق ينطبق على اليمن وليبيا وغيرهما. كيانات وشعوب تقف على نصل الأسئلة من دون أجوبة، لذلك يظل مصيرها معلقاً في حبال الاحتمالات المرعبة.

*أستاذ جامعي


المساهمون