حرب على خطوط الصدع

04 أكتوبر 2015

آثار قصف روسي في الرستن قرب حمص (30 سبتمبر/2015/Getty)

+ الخط -
لا تقذف الطائرات الروسية على الأرض السورية قنابلها وصواريخها على مجرد أهداف ثابتة، لا تشكّل للطيارين أكثر من نقاط صغيرة تظهر على راداراتهم، بل هي تقصف خريطة متشابكة من خطوط الصدع التي ارتسمت على الأرض السورية، بدقة متناهية وبمقاسات مسطرة دقيقة، بحيث يكاد يكون كل هدف خط صدع، ومنطقة خطرة يثير مجرد لمسها والاقتراب منها جملة من الحساسيات. هكذا هو الواقع الحربي في سورية اليوم، وتلك إحدى نتائج المدى الزمني الطويل لاستمرار الأزمة، حيث كل هدف يُراد استهدافه قابل للتحول إلى دينامية صراعية، تعطي للحرب الدائرة زخماً فوق زخمها، وتمنحها آفاقاً جديدة للتمدّد والاستمرارية. 

وتحاول روسيا، بارتباك واضح، تفكيك شبكة خيوط هذه العقدة، وصنع مسارات ملائمة تؤمن لها السلامة، بعد أن تكشّف لها، عملانياً، أن جزءاً كبيراً من حساباتها النظرية ملتبس أو مشغول بنزق وتسرّع، فمرة تقول إن "منظمة" الجيش الحر لا تشكل هدفاً لضرباتها، ما يعني اعترافاً صريحاً بأحد أهم مؤسسات الثورة السورية. وتارة تعلن كنيستها أنها تخوض حرباً مقدسة لحماية الأقليات التي تتعرض للإبادة، فيما يبدو محاولة لإحراج الغرب، وطوراً تعطي الوعود لإسرائيل بعدم تضرّرها من الحرب. لكن، من قال إن ذلك كله قد يجعل طريقها سالكاً بين الحفر والمطبات وخطوط الصدع؟ ومن قال إن السير في وديان الحرب السورية وطرقها الضيقة والوعرة يمكن أن يعبرها دبٌّ بسلام، أو ينجح في إدارة مراحلها والتحكم بأطوارها، فما بالك إذا كان دبا أعمى يحدد خطواته ومكان دعساته نظام الأسد الذي يشرف على تحديد الإحداثيات للطائرات الروسية، بالإضافة إلى غرفة عمليات بغداد التي تتحكم ببنك أهدافها إيران؟
على ذلك، فالحرب في سورية أكثر من عملية إلقاء قنابل والتأشير على الأهداف، إنها تشبه السير على حبل مشدود بين قمم جبال. كل المساحات السورية بمحتوياتها الديمغرافية والتضاريسية صارت فروعاً لامتداداتٍ أعمق، وباتت تشكل رؤوس عناوين للقضايا الإشكالية في السياسة الدولية المعاصرة، وكل رأس هو بوابة صدع خطير، شكّلته حقبة الحرب السورية على وقع انزياحاتها العنيفة وانحيازاتها المعلنة. وفي خضم هذا التشابك والتعقيد، تظهر الحرب الروسية بشكلها النافر حرباً على خطوط الصدع اللا متناهية:
- هي حرب على خطوط الصدع الدولية بالدرجة الأولى، ذلك أنها، في أحد أهم مضامينها
الاستراتيجية، محاولة للسيطرة على خواصر أوروبا عبر بناء قاعدة ضخمة، بحرية وجوية على الساحل السوري، لتتكامل مع القاعدة البحرية في القرم. وإذا استقر الأمر، قد تكمل روسيا خطوتها في التمدد إلى بنغازي، خصوصاً أن الذرائع متوفرة، والفراغ موجود، والمساندة العربية مضمونة، وخصوصاً من مصر التي تبدو على تنسيق كامل مع روسيا.
- وهي حرب على خطوط الصدع الإقليمية، ذلك أن الاستهداف الروسي يطاول جميع البنى والتشكيلات التي دعمتها الأطراف الإقليمية، للدفاع عن مصالحها في سورية، والإقليم عموماً، وأصبحت هذه البنى جزءاً من الحسابات الأمنية الإقليمية في إطار الحرب الإقليمية، الدائرة منذ سنوات، على الجغرافيا السورية.
- هي أيضاً حرب على خط الصدع المذهبي الذي باتت الأرض السورية تشكل عنوانه الأبرز، وحرب بوتين، بشكلها وأهدافها المعلنة، تشكّل اصطفافاً صريحاً إلى جانب طرف مقابل آخر، ما يشكل إخلالاً متعمداً للتوازنات القائمة في المنطقة، وينذر بضخ زخم جديد في شرايين هذه الصراعات.
- وهي حرب على خط صدع العلاقات العربية – العربية، الهشة أصلاً، والتي بالكاد تحافظ على الحد الأدنى من التوافق، فكيف ستبرّر دول، مثل مصر والعراق والجزائر، دعمها حرباً ستؤول ثمارها لصالح إيران، بما يضعف أمن دول الخليج التي تقف في الصف الأخر؟
- وهي حرب على صدع العلاقات التركية – الكردية، حيث تعمل روسيا على تشكيل غطاء لتمرير المشروع الكردي شمال سورية.
- وهي حرب على خط الصدع السوري والعلاقة بين الأكثرية والأقليات، وأثرها في عملية التطهير الطائفي في مناطق كثيرة، وبالتالي، تعميق الانقسام، بحيث لن يعود هناك إمكانية لردمه.
- وأخيراً، هي حرب على صدع خطوط الطاقة، إذ تهدف روسيا إلى التحكم بخطوط نقل النفط والغاز المكتشف في الشواطئ الشرقية للبحر المتوسط وحرمان المنافسين إمكانية الاستفادة من الجغرافيا السورية.
وسط غابةٍ من خطوط الصدع، تخوض روسيا حربها بما يشكل انقلاباً في الحسابات الإستراتيجية في المنطقة، وعلى سطح هذه البنية المتصدّعة، تحلم موسكو في بناء حرم لها، من دون أي حساسية تجاه حسابات المخاطر العديدة، إذ ربما يعتقد بوتين، وقادته العسكريون، أن العالم سيبقى تحت وقع الصدمة، حتى يتسنى له إكمال عمرانه الإستراتيجي في سورية، ومن دون أن يلتفت إلى أنّ الأطراف المعنية هي في طور صوغ ردود أفعالها، وليست في طور التكيف مع الإجراءات الروسية، ذلك أن بوتين، المندفع في بناء رهاناته على وقائع متحركة، ويحاول تفسيرها ثوابت، في هذه اللحظة الدولية، فاته حساب أن أغلب الأطراف التي يشتبك معها عند خطوط الصدع هي في وضع لا يسمح لها بالتعاطي بمرونةٍ زائدة مع المتغيرات التي يرغب في إحداثها على الأرض.

5E9985E5-435D-4BA4-BDDE-77DB47580149
غازي دحمان

مواليد 1965 درعا. كتب في عدة صحف عربية. نشر دراسات في مجلة شؤون عربية، وله كتابان: القدس في القرارات الدولية، و"العلاقات العربية – الإفريقية".