يقول القائد العسكري الصيني، سون تزو، إن "الفن الأعلى للحرب هو إخضاع العدو من دون قتال". هكذا يمكن اختصار محاولات إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، جلب إيران إلى طاولة المفاوضات لإجراء صفقة إدماجها في الاقتصاد العالمي مقابل تعديل سلوكها الإقليمي. لكن ما تقوم به إدارة ترامب لا يرقى لمستوى استراتيجية دولة عظمى، بل يختزل عزلة واشنطن الدولية والتخبط الذي تمر به إدارتها. وفي الوقت ذاته، رفع قائد "فيلق القدس" التابع إلى "الحرس الثوري" الإيراني، قاسم سليماني، من نبرة تهديده، معتبراً أن البحر الأحمر، الذي يعتبر أحد أهم طرق التجارة في العالم بالنسبة لناقلات النفط، لم يعد آمناً بسبب التواجد الأميركي فيه.
لدى واشنطن هذه الأيام جبهات مفتوحة ضد طهران، وهناك تيار داخل الإدارة يرى في هشاشة الاقتصاد الإيراني فرصة لرفع سقف الضغوط. الجبهة الأولى تخوضها وزارة الخارجية، وهي عبارة عن حرب دعائية للتأثير على نظرة الشعب الإيراني إلى قادة النظام عبر وصفهم بـ"المافيا"، بالإضافة إلى فتح قنوات اتصال مع "الحزب الديمقراطي الكردستاني" في إيران الذي يخوض اشتباكات مع "الحرس الثوري الإيراني" في المنطقة الحدودية بين إيران والعراق. الجبهة الثانية يقودها البيت الأبيض، وهي عبارة عن حظر اقتصادي يركّز على التبادل التجاري لإيران، لا سيّما وقف صادرات النفط الإيرانية التي تصل إلى 2.5 مليون برميل يومياً. الجبهة الثالثة، وهي الأضعف، تقودها وزارة الدفاع (البنتاغون) في محاولة لردع النفوذ الإيراني في العراق وسورية. هذه الجبهات الثلاث تسعى في جوهرها إلى تقويض مبادئ الاتفاق الضمني بين النظام الإيراني وإدارة الرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما، وهي تخلي واشنطن عن محاولات تغيير النظام وفصل الاتفاق النووي عن دور طهران الإقليمي والتكامل غير المباشر في مناطق النزاع في العراق وسورية ولبنان.
الأشهر المقبلة حتى نهاية العام الحالي مفصلية بالنسبة إلى معركة النفط الأميركية-الإيرانية. في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل يبدأ مفعول الحظر الأميركي على صادرات النفط الإيرانية بالتزامن مع تصويت الناخب الأميركي في انتخابات الكونغرس النصفية. يسعى ترامب جاهداً منذ أسابيع لإيجاد بدائل عن النفط الإيراني لتفادي السيناريو الأسوأ، أي ارتفاع أسعار النفط وتأثيره السلبي على الاقتصاد الأميركي عشية انتخابات الكونغرس. حاول عقد صفقة تسهيل المهمة الروسية في سورية مقابل حياد موسكو في الحظر الاقتصادي الأميركي على طهران، لكن الأزمة الداخلية في واشنطن منعت تبلور أي صفقة جدية في قمة هلسنكي مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين. سارع ترامب بعدها إلى توجيه رسالة تهديد ووعيد فرضت على قائد قوات برلمان طبرق، اللواء المتقاعد خليفة حفتر، تسليم المنشآت النفطية إلى المؤسسة الوطنية للنفط لضمان استئناف التصدير عبر موانئ شرق ليبيا.
من جهتها، ترد إيران أيضاً في معركة النفط هذه مع ترامب. الرئيس حسن روحاني هدد أكثر من مرة بإغلاق مضيق هرمز، أي وقف عبور ثلث تجارة النفط العالمي أو ما يعادل 19 مليون برميل يومياً، وهو ما تعتبره واشنطن خطاً أحمر. الأسطول الخامس في البحرية الأميركية، الذي يتخذ من البحرين مقراً له، هو المسؤول عن حماية الملاحة الدولية في المنطقة، وتوقعات الجيش الأميركي أن بإمكانه إعادة فتح المضيق بعد ساعات أو أيّام (في حال تم وضع ألغام بحرية). حتى الآن ليس هناك تعديل في الانتشار العسكري الأميركي يوحي بأي توتر ميداني، لكن مجرد تعزيز هذا الانتشار يُرسل إشارة سلبية إلى أسواق النفط العالمية بأن احتمال المواجهة ممكن. إيران توجه أيضاً رسائل عبر الحوثيين باستهداف ناقلات نفط سعودية في البحر الأحمر، ما أدى إلى إعلان الرياض، هذا الأسبوع، تعليق مؤقت لشحنات النفط الخام عبر باب المندب. وتبدى هذا الأمر في إعلان قائد "فيلق القدس" في "الحرس الثوري"، قاسم سليماني، من أن البحر الأحمر لم يعد آمناً مع وجود القوات الأميركية في المنطقة، داعياً ترامب إلى "أخذ العبرة من تجارب من سبقوه". ونقلت وكالات إيرانية عن سليماني قوله لترامب "أنا ندكم وقوات قدسي هي أنداد لكم. أنا أقول لكم يا سيد ترامب المقامر، أقول لك اعلم أنه في اللحظة التي أنت فيها عاجز عن التفكير نحن قريبون منك في مكان لا تتصوره أبداً. تذكّروا بأن حسابكم معي ومع فيلق القدس وليس كل القوات المسلحة. أنتم تعرفون قدرات إيران في الحرب غير المتماثلة". وأضاف "نحن شعب الشهادة، نحن قد خبرنا أحداثاً كثيرة، تعال نحن بانتظارك، نحن رجال الوغى وأندادك أنت". وتابع "أنت تعلم أن هذه الحرب ستدمر كل ما تمتلكه. أنتم ستبدأون هذه الحرب لكن نهايتها نحن من سيفرضها، لذلك عليك الانتباه من إهانة الشعب الإيراني ورئيس جمهوريتنا. عليك أن تفهم ما تقول، وتسأل من سبقوك واستفد من تجاربهم. بالتأكيد أن هناك داخل أميركا أشخاصاً ومؤسسات بحثية كبيرة يقومون بتعليمك".
أسواق النفط تترقب موعد 6 أغسطس/آب المقبل، حيث سيبدأ مفعول أولى العقوبات الأميركية، نتيجة انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي مع إيران. والبيت الأبيض طلب من كل مستوردي النفط الإيراني وقف عمليات الشراء بحلول نوفمبر/تشرين الثاني المقبل أو مواجهة عقوبات مالية، وهذا قد يؤدي إلى تراجع تصدير النفط الإيراني إلى ما بين 600 و700 ألف برميل يومياً. تواجه طهران هذا الحظر عبر تقديم تخفيضات على أسعار نفطها خلال الفترة الأخيرة، ما جعل إيران تأخذ المركز الثاني بدل السعودية كأكبر مصدّر للنفط إلى الهند. كما تأتي الهند بعد الصين كأكبر مستورد للنفط الإيراني. هذه كلها مؤشرات أن واشنطن في ظل قيادة ترامب تعيش عزلة دولية، والامتحان الأهم لها هو في قدرتها على إقناع حلفاء، مثل الهند وتركيا، بالتخلي عن مصالحها التجارية مع إيران.
سيناريوهات المواجهة والتقارب
في ظل هذا التوتر غير المسبوق بين البلدين، وفي ظل غياب أي قناة اتصال مشابهة للمشاورات المباشرة كالتي كانت بين وزير الخارجية الأسبق، جون كيري، مع نظيره الإيراني، محمد جواد ظريف، فإن احتمال حصول تصعيد مفاجئ ممكن. في مراحل سابقة قامت إيران بالتضييق أو إزعاج السفن الأميركية القريبة من مضيق هرمز، لكن هناك إدراك في طهران أن التلاعب في هذه القضية مع إدارة، مثل إدارة ترامب، قد يؤدي إلى تداعيات لا يمكن توقعها، لا سيما في ظل انعدام الثقة بين الطرفين. احتمالات الرد الإيراني هي أيضاً عبر القرصنة الالكترونية في استهداف البنى التحتية والقطاعات التجارية والمالية الحليفة للولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
وعلى الرغم من إنهاء التفاهمات الضمنية بين البلدين في العراق وسورية ولبنان، لم تدخل واشنطن وطهران بعد في مرحلة المواجهة بالوكالة في مناطق النزاع هذه. هناك محاولات لأميركا وحلفائها لتأجيل أو تعطيل مسار تشكيل الحكومة في العراق ولبنان، كما فرض ضوابط جديدة على الاتفاق بين روسيا وإسرائيل في جنوب سورية. لكن ملامح الاستراتيجية الأميركية في ظل إدارة أوباما لا تزال قائمة إلى حد بعيد. هذه الحرب الكلامية الدائرة تكشف مرة أخرى عدم رغبة الطرفين بخوض مواجهة عسكرية ليس لديهما قدرة على استيعاب تداعياتها، كما تكشف مرة أخرى أنه لا مفر من الحوار، لكن الطرفان يناوران بانتظار من يبادر أولاً أو يخضع للتفاوض بشروط الآخر. أبعد من ذلك، فإن الدينامية الداخلية في البلدين حاسمة في المرحلة المقبلة. إيران تحاول لملمة وضعها الداخلي وتوحيد صفوفها أمام تحدي الانكماش الاقتصادي واستمرار مغامرات التورط في مناطق النزاع. وأميركا تحبس أنفاسها حتى انتهاء التحقيق بملف التدخل الروسي في الانتخابات الأميركية بحلول نهاية العام الحالي. خلال هذا الوقت الضائع في أزماتهما الداخلية، يلعب الطرفان هذه الأيام سياسة الرقص على حافة الحرب.