أن تترك أثراً في مكان عام، وأن تقوم بذلك خلسة، معاكساً السلطة وتصوّراتها. أن يرى الناس، يومياً، ما فعلتَه، فيصير هذا الفعل العابر مع الوقت جزءاً من ذاكرة المكان. قد يكون في هذا كله جانباً من غواية الغرافيتي.
لستَ مطالباً بأن تكون فناناً محترفاً بالضرورة لتقوم بالغرافيتي، الذي لا تحتاج "مشروعيته" الفنية إلا جداراً وشارعاً يطل عليه. الإطار الأساسي للعمل والتلقّي في آن، هو فعل احتجاج بالدرجة الأولى. الشارع، في عرف فناني الغرافيتي، هو حقل نزاع يشكّل العمل بذاته وسيطاً لاستعادته وتملكه، ولو مؤقتاً، في ما يمثّل فعل تحدٍّ ومعارضة للسلطة.
عمل الغرافيتي يدرك طابعه المؤقت، والعابر. هو حاصل فعل اختراق؛ عملٌ يُنجَز خلسة في فضاء تسيطر عليه سلطات أخرى بشكل مستمر. إنه التضاد بين الديمومة التي تسعى إليها السلطة، كل سلطة، وبين المؤقت والمختلس.
ما الذي يمكن أن تفعله السلطة، إذاً، إزاء الغرافيتي؟ يمكن ببساطة أن تعيد دهن الجدران. ويمكن أيضاً أن تغضّ النظر، أو أن تستدخل الغرافيتي في تصوّر جديد عن الفضاء المديني. يصير هذا الفن، في هذه الحال، عنصر جذب للسياح. ويمكن له أن يصير واسطة دعاية لمهرجانات وماركات، إلخ. هذا، مثلاً، حال أعمال الفنان الإنجليزي بانكسي، أحد أشهر فناني الغرافيتي اليوم.
جزء من غواية الغرافيتي، أيضاً، أن تكون الكلمة صورةً في اللحظة عينها؛ اختلاط الكتابي والبصري؛ تداخل الرسالة والوسيط لحظياً؛ واللعب على المسافة بين هذه الحدود بأدوات أوليّة وبسيطة. لكن هذه الغواية هي، بحد ذاتها أيضاً، نقطة ضعف الغرافيتي.
بكلمة أخرى، يتطلب نمو هذا الفن وازدهاره شروطاً خاصة، ويستدعي لحظات بعينها. فنانو الغرافيتي، ربما أكثر من غيرهم، محكومون أيضاً بشروط "الصالات" التي يعرضون فيها. ليست الجدران أمكنة محايدة على أي حال. وما إن تتخلخل السلطة التي تتولى مهمة ترتيب الجدران، حتى تولد أسئلة جديدة.
نشط هذا النوع من الفنون، في العالم العربي، مع بداية الثورات. كانت تلك لحظة استثنائية مواتية لتفتّح الغرافيتي. فن يعبّر رمزياً عن إعادة امتلاك الفضاء العام الذي تحتله السلطة. أما في السابق، فكان يقتصر، عموماً، على ما يمجّد الدكتاتور: رسوم تستعيد وجهه وجسده، وكلمات تستعيد أُقواله.
قد تكون مصر البلد الذي شهد تطوراً ملحوظاً في حضور الغرافيتي أكثر من سواه في المنطقة. بالقرب من ساحة التحرير في القاهرة، تحوّل شارع "محمد محمود" إلى متحف حي من رسوم وكتابات الغرافيتي. لكن سيرة التحولات التي عاشها هذا الشارع تحيلنا مرة أخرى إلى تحولات حتمية يتعين على فن الشارع أن يواجهها: كان هناك لوحة معروفة تنتقد حكم العسكر، تقول كتابتها "اللي كلّف ما ماتش"، ونرى وجهاً نصفه للرئيس السابق حسني مبارك والنصف الأخر للمشير حسين طنطاوي.
مع وصول محمد مرسي إلى الرئاسة، أزيلت هذه الجدارية كغيرها. الفنان الذي رسم اللوحة الأولى أعاد تنفيذها لاحقاً مضيفاً إليها وجه مرسي نفسه. في عملية تبديل الوجوه هذه، يقع الغرافيتي على سؤاله المباشر: ما الذي يحدث حين لا يعود هناك مَن نواجهه لكي نستعيد الفضاء العام؟
اليوم، تحضر سيرة التحولات التي عاشها البلد، مختلطةً، وتتراكب في صور يمحو بعضها الآخر: جداريات تجمع الصورة بالشعار؛ أعمال عن الشهداء الذين سقطوا بداية الثورة؛ صور شهداء آخرين تضاف تباعاً. يختلط كل ذلك مع أعمال تلتفت إلى ظواهر تحتل مركز الاهتمام في المجتمع قبل أن تختفي: القضاء، الإعلام، التحرش الجنسي، إلخ. قضايا ليست كلها على حد سواء، لكنها جميعاً موزعة على الجدران نفسها.
في سوريا، الوضع يختلف. صحيح أن الاحتجاجات ارتبطت بعبارات مكتوبة على جدار مدرسة في درعا، إلا أن هذا الفن لم يتبلور أو يتطور على النحو الذي شهدناه في مصر. التعبير الطاغي هنا ظل مقتصراً بشكل عام على عبارات احتجاجية سريعة مقابل غياب نسبي للصورة والرسم. يشير ذلك بوضوح إلى اختلاف مسار التغييرات في البلدين. ما زال النظام السوري يسيطر هنا، نسبياً، وحيث لا يسيطر هو اليوم، هناك سلطات جديدة تولد، وتتحكم بالجدران.
أوّل شكل للغرافيتي في سوريا ارتبط باسم ساخر: "الرجل البخاخ". الاسم مستوحى من مسلسل كوميدي ناقد. حضر وقتها بجانب العفوية والسرعة، شيء من السخرية الطريفة في كتابة العبارات المناوئة للسلطة على جدران المدينة، عبارات يمحوها الأمن أو "يغيّرها"، ويكتب فوقها المتظاهرون قبل أن تمحى مجدداً.
كان ذلك أقرب إلى حرب "التاغ" بين السلطة والناس. بدا للحظة أن في الأمر قدراً من الخفة، كأن شخصاً تسرّب من مسلسل هازل وراح ينغص على السلطة، هناك، في المقابل، ما ليس خفيفاً في مصيره على الإطلاق. هو لم يعد إلى المسلسل بالتأكيد، ولا نعلم إن كان أحد يذكر اسماً لهؤلاء الهاربين. "الرجل البخاخ" ليس هوية لأحد؟