جاء في خلاصة مقالة "حرب ثقافية على التسامح" لأستاذ التاريخ الأميركي لورنس ديفيدسون (منشورة في 16 تموز/ يوليو 2017 على صفحات مدونته الخاصة): "حين يتقلص فضاء التسامح، يبدأ البرابرة الموجودون بيننا بسنّ القوانين وتحديد أساليب التفاعل الاجتماعي".
هذه الخلاصة لا تستوحي قصيدة اليوناني قسطنطين كافافي (1863-1933) الشهيرة المعنونة "في انتظار البرابرة"، أو تستعير سطراً منها يقول "عندما يأتي البرابرة.. سوف يسنّون القوانين"، بل تعود إلى موضوع قديم، هو موضوع "الحرب الثقافية"، الذي أدخله جيمس ديفسن هنتر لأول مرة في سياسة الولايات المتحدة الأميركية وثقافتها بكتابه "حروب ثقافية: الصراع حول تعريف أميركا" (1991). يومها كشف هنتر عن وجود انحياز واستقطاب مثيرين أحدثا تحوّلاً في ثقافة الولايات المتحدة وسياستها، توزع على عدد من القضايا، أبرزها قضية الإجهاض، وقوانين تنظيم تجارة الأسلحة داخل الولايات، وارتفاع درجة حرارة الأرض، واستخدام المخدرات والرقابة والجنسانية.
إلا أن التجديد الذي أدخلته مقالة ديفيدسون، بعد إشارته إلى الانقسام العميق حول قضايا أساسية مثل العنصرية، والفروق بين الجنسين، ودور الدولة في المجتمع، ودور النظرة الدينية في تشكيل القوانين، هو تناولها كقضايا خلافية، أو حروب دائرة الآن، حسب توصيفه، في قاعات الكونغرس، وقاعة "المحكمة العليا" التي تعكس قراراتها ميولاً "محافظة". وكل هذا يجعل من الصعب صعوبة بالغة إجراء نقاشٍ أو سجالٍ بنّاء حولها. بل وتؤدي محاولاتٌ من هذا النوع إلى مزيد من الانقسام بدلاً من المصالحة في أغلب الحالات، الأمر الذي يعكس كما يقول "ما يرى فيه بعض المعلقين حرباً ثقافية جارية".
من قرأ قصيدة الشاعر اليوناني يمكن أن يلمس وجهاً من وجوه الشبه بين ما يحدث لسكان المدينة الحائرين والمنقسمين حول حقيقة ما يجري حولهم وهم ينتظرون، ومعهم إمبراطورهم، قدوم البرابرة (هجوم من الخارج)، وبين ما يحدث في الأوساط الجامعية وكلياتها من سجالات في أقسام "الإنسانيات" و"العلوم الاجتماعية" (هجوم من الداخل)، موضوعاتها الخلافية هي التاريخ واللغات والأنثروبولوجيا والعلوم السياسية وما إلى ذلك. هذا النقاش متواصل في الجامعات الأميركية منذ نهاية الحرب العالمية على الأقل، وصولاً إلى سبعينيات القرن الماضي حين ظهرت اتجاهات جلية بكيفية تداول هذه القضايا، وتم التوافق على موقف متسامح رفع فضائل المساواة والعدالة الاجتماعية إلى أعلى مستوى لها. وحتى وقت قريب ظل هذا التوافق قائماً، إلا أن الأشياء بدأت تتغيّر الآن كما يبدو.
ظهر ميل لعزل بيئة الحرم الجامعي، والحط من قيمة الموقف المتسامح بوصفه "تجنباً للحساسيات" العرقية والجنسانية Political Correctness لا أكثر، كما لو أن التجنب كان خطأ.
ويلقي تقرير صدر حديثاً لمركز أبحاث Pew Research الضوء على عملية عزل ومحاصرة أحد أكثر معاقل التسامح فعالية؛ الوسط الجامعي. يقول التقرير: "هناك تحول مثير في الموقف من التعليم الجامعي بين الجمهوريين وأنصارهم، إنهم غاضبون على التعليم العالي، ويقولون إن الكليات الجامعية ذات تأثير سلبي على أميركا". وتصل نسبة القائلين بهذا بينهم إلى 58%، وتتصاعد تصاعداً طردياً مع اشتداد النزعة المحافظة. بينما تصل نسبة من يرى مساهمة الكليات الجامعية إيجابية في أوساط الديموقراطيين إلى 72%، مع عدم نسيان أن هؤلاء يجدون صعوبة في نيل ثقة الناخبين.
وفي التحليل، يجد التقرير صلة بين من يحملون وجهة نظر سلبية تجاه مؤسسات التعليم العالي وأولئك المتمترسين وراء مراقبة وسماع وسائط الإعلام الأميركية اليمينية. فأخبار فوكس نيوز، وبقية الوسائط المحافظة، تنشر يومياً نقداً نمطياً لما يجري من خلافات تتعلق بحرية الرأي في الحرم الجامعي، مع تغطيات تركز على - وتنتقد - ما تتصوّر أنه أرثوذكسية متحررة، ومبدأ "تجنب الحساسيات" في أوساط التعليم العالي، مع الأخذ بعين الاعتبار أن شبكة "فوكس نيوز" هي أكثر شبكات عرض الأخبار شعبية، أو يُزعم أنها كذلك، في التلفزة الأميركية. وفي مثل هذا الجو، لم تعد الدقة أو الحقيقة معياراً في البحث عن المعلومات، بل قدرة المعلومات على تأكيد وجهة النظر التي يحملها الفرد مسبقاً.
يقول أستاذ التاريخ: "ليس على المرء أن يكون يمينياً ليشارك في هذه اللعبة، ولكن هذه اللعبة هي ما يقيم فرقاً في نهاية المطاف إذا كان المرءُ في وسط غير متسامح. النظرات غير المتسامحة نظمٌ مغلقة، ما أن تأخذ بها حتى تضع على عينيك ما يشبه الغِمامة التي توضع على عيني ثور يدور في ساقية، فتصبح أحد "المؤمنين"؛ أي لا مزيد من السجالات، لا مزيد من المناقشات، لا مزيد من سعة الأفق، لا مزيد من التسامح. وسيبدو الناس الذين لا يضعون غِمامتك على أعينهم خطرين ومبتدعين وغير وطنيين. وهكذا تكون مرتبطاً ارتباطاً صريحاً بـ"فكر جماعي" غير ديموقراطي.
وفي ربط لهذا بما يدور الآن في أميركا، يضيف "إن انعدام التسامح في ظل قيادة جمهوريين وجمهوريين جدد (ترامب وبانون وحزب الشاي.. إلخ) آخذٌ بالاتساع، وتتعرّض المؤسسات التي تقيم وزناً للتسامح إلى شتى الضغوط. إعلام الجناح اليميني هو مصدر هذه الضغوط أحياناً، وأحياناً يكون المصدر مصالح قوى ضغط خاصة، وواهبين للأموال، وأحياناً، في حالة الجامعات وكلياتها، يكون جيوب الطلبة، يمينيين ويساريين، الذين قرّروا أن بعض وجهات النظر أصبحت لا تطاق ويجب إخراسها. ويجد المتسامحون، في وسط حرب ثقافية، أنفسهم محشورين في زاوية".
ويحذر من أن الجمهوريين "إذا نقلوا هجومهم على الكليات المتسامحة إلى الكونغرس أو المحاكم، فقد نصل إلى موقف يصبح فيه تحمل انعدام التسامح غير عقلاني". ويذكر بمفارقة عرضها الفيلسوف النمساوي كارل بوبر مفادها "أن التسامح غير المحدود سيؤدي حتماً إلى اختفاء التسامح. فإذا تسامحنا حتى مع غير المتسامحين، ولم نكن مستعدين للدفاع ضد هجوم غير المتسامحين، فسيتم تدمير التسامح والمتسامحين على حد سواء".
ويختم أستاذ التاريخ مقالته بالقول "هذه هي المعضلة التي تفرض نفسها علينا؛ حين تنتصر الحرب، حرب ثقافية في هذه الحالة، على العقل الجماعي، يتقلص فضاء التسامح، ويبدأ البرابرة الموجودون بيننا بسن القوانين وتحديد أساليب التفاعل الاجتماعي".
في قصيدة كافافي حل الليل ولم يصل البرابرة، وعاد سكان المدينة إلى بيوتهم وهم يتساءلون: "والآن ماذا سيحدث لنا من دون برابرة/هؤلاء الناس كانوا حلاً من نوع ما"، إلا أن وضعية سكان الولايات الأميركية يختلف حالهم؛ البرابرة المنتصرون موجودون سلفاً بينهم، ولكنهم ليسوا حلاً كما يقول لورنس ديفيدسون.
استعمار العقل الأميركي
لورنس ديفيدسون أستاذ تاريخ في جامعة غرب تشيستر (بنسلفينيا) سابقاً. أبرز كتبه "الإبادة الثقافية" (2012)، و"تاريخ مختصر للشرق الأوسط" (2010).
تضمّن الفصل الأخير من كتابه "نظرة أميركا إلى فلسطين" (2001)، فصلاً بعنوان "استعمار العقل الأميركي"، قدم فيه مراجعة يدحض فيها المقاربة التقليدية التي أعلت من شأن ما يسمى الرابطة بين القيم الأميركية وتلك التي لـ"إسرائيل".