31 أكتوبر 2024
حتى لا تقتلنا هوياتنا
كيف يمكننا التمييز في مواقفنا ومشاعرنا تجاه الأدباء الذين يقولون أحيانا ما لا يفعلون، أو يكتبون ما لا يطبقونه في مواقفهم وسلوكياتهم؟ بمعنى آخر وبمثال واضح؛ كيف يمكنني التوفيق بين مشاعري التي فرحت بتكريم أمين معلوف أخيرا في فرنسا، إذ رأيت فيها، ولو من زاوية ضيقة صغيرة، تكريما للأدب العابر للهويات والثقافات، ومعبّرا بامتياز عن التعدّدية والاختلاف، وموقفي الرافض فكرة التطبيع الثقافي مع الكيان الصهيوني بكل صوره وأشكاله، والتي تبنّاها معلوف، ولو بشكل غير مباشر؟
هي ليست حيرة بقدر ما هي تساؤلاتٌ تفرضها علينا تحديات الواقع، وتحتاج منا إلى مراجعات ذاتية دائمة، ليس كأفراد وحسب، بل أيضا كمؤسسات وكيانات ودول، ففي سياق الفرح الذي أبداه قراء الكاتب اللبناني الفرنسي، أمين معلوف، تجاه خبر تكريمه من الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، أخيرا، بوسام الاستحقاق الوطني (الفرنسي) علّقه على صدره، تذكّر بعضهم الهجوم الذي شنّه لبنانيون وعرب كثيرون على الكاتب نفسه قبل أربع سنوات تقريبا إثر ظهوره عبر الأقمار الاصطناعيّة من باريس ضيفاً على برنامج أدبي بثته قناة تلفزيونية إسرائيليّة، وكان موضوع البرنامج الحديث عن كتاب أمين معلوف "كرسي على السين".
كثيرون، وأنا منهم وما زلت، رأوا في خطوة الكاتب الذي ما زال يحتفظ بجوازه اللبناني تطبيعا مع العدو الإسرائيلي، وتجميلا لوجهه البشع، خصوصا أن لبنان يعتبر التطبيع مع الكيان الصهيوني بأي شكل جريمةً مكتملةً في نظر القانون. وعلى الرغم من أن بعضهم رأى في ظهور صاحب "الهويات القاتلة" على قناة صهيونية، بل وليكودية متطرّفة ضد العرب، حقا من حقوقه في ترويج أعماله الأدبية وثقافة التسامح التي يتبناها في هذه الأعمال، ونوعا من التبشير المباشر بها لدى الفئة المستهدفة.
إثر تلك الحادثة، تجاهلت الدولة اللبنانية الموقف كله، معتبرةً، كما يبدو، مواطنها الذي غادرها قبل عقود أصبح يكتب بالفرنسية وحدها، حرّا في اتخاذ ما يراه من مواقف لا تضر بها بشكل مباشر! ولكن الدولة عادت لتعتبره ابنها المميز، بعد تكريمه في قصر الإليزيه قبل أيام، إذ كتبت وزيرة الإعلام اللبنانية، في تغريدة لها على "تويتر"، وبكثير من الفخر الصاخب، أن "اللبنانيين أينما حلّوا يحجزون مكانة متقدّمة لهم"، وتكرّر معنى هذه التغريدة في مواقف أخرى أبداها رسميون وبرلمانيون في لبنان، معتبرين أن المجد الذي حققه وما زال يحققه صاحب "الحروب الصليبية كما رواها العرب"، إنما يحققها للبنان وباسمه!
هذا اعتبار لا يمكن تسفيهه بالمطلق، كما فعل كثيرون رأوا في تغريدات الوزيرة وغيرها مزايدةً لا محل لها من إعراب الرجل الذي نجح باعتباره كاتبا فرنسيا وحسب، فمعلوف عندما غادر لبنان في سبعينيات القرن الماضي كان قد تكوّن ثقافيا بالفعل، ثم إن معظم كتاباته ورواياته تنطلق من فكرته اللبنانية والعربية، على الرغم من الرؤية الإنسانية العالمية التي يكتبها فيها. والرجل الذي لم يقطع صلته بوطنه الأم، ولا بمحيطه العربي، لا يمكن أن نضعه في خانة الآخر بالمطلق، خصوصا أنه أحد القلائل من الأدباء العرب المهاجرين الذين حاولوا التصدّي لقضية الهوية بقوة، سواء بشكل مباشر في معظم رواياته ذات الأرضية الشرقية، أم بشكل غير مباشر كما فعل في كتابه الصغير الجميل "الهويات القاتلة". هذا يعني ببساطة أن علينا، في إطار المراجعات الذاتية المستمرة، ألا نخجل من الفرز القائم على المواقف الأخلاقية والفنية الإبداعية إن احتجنا لذلك، حتى لا تقتلنا هوياتنا، ولا نخسر مواقفنا ومواقعنا في هذا العالم.
كثيرون، وأنا منهم وما زلت، رأوا في خطوة الكاتب الذي ما زال يحتفظ بجوازه اللبناني تطبيعا مع العدو الإسرائيلي، وتجميلا لوجهه البشع، خصوصا أن لبنان يعتبر التطبيع مع الكيان الصهيوني بأي شكل جريمةً مكتملةً في نظر القانون. وعلى الرغم من أن بعضهم رأى في ظهور صاحب "الهويات القاتلة" على قناة صهيونية، بل وليكودية متطرّفة ضد العرب، حقا من حقوقه في ترويج أعماله الأدبية وثقافة التسامح التي يتبناها في هذه الأعمال، ونوعا من التبشير المباشر بها لدى الفئة المستهدفة.
إثر تلك الحادثة، تجاهلت الدولة اللبنانية الموقف كله، معتبرةً، كما يبدو، مواطنها الذي غادرها قبل عقود أصبح يكتب بالفرنسية وحدها، حرّا في اتخاذ ما يراه من مواقف لا تضر بها بشكل مباشر! ولكن الدولة عادت لتعتبره ابنها المميز، بعد تكريمه في قصر الإليزيه قبل أيام، إذ كتبت وزيرة الإعلام اللبنانية، في تغريدة لها على "تويتر"، وبكثير من الفخر الصاخب، أن "اللبنانيين أينما حلّوا يحجزون مكانة متقدّمة لهم"، وتكرّر معنى هذه التغريدة في مواقف أخرى أبداها رسميون وبرلمانيون في لبنان، معتبرين أن المجد الذي حققه وما زال يحققه صاحب "الحروب الصليبية كما رواها العرب"، إنما يحققها للبنان وباسمه!
هذا اعتبار لا يمكن تسفيهه بالمطلق، كما فعل كثيرون رأوا في تغريدات الوزيرة وغيرها مزايدةً لا محل لها من إعراب الرجل الذي نجح باعتباره كاتبا فرنسيا وحسب، فمعلوف عندما غادر لبنان في سبعينيات القرن الماضي كان قد تكوّن ثقافيا بالفعل، ثم إن معظم كتاباته ورواياته تنطلق من فكرته اللبنانية والعربية، على الرغم من الرؤية الإنسانية العالمية التي يكتبها فيها. والرجل الذي لم يقطع صلته بوطنه الأم، ولا بمحيطه العربي، لا يمكن أن نضعه في خانة الآخر بالمطلق، خصوصا أنه أحد القلائل من الأدباء العرب المهاجرين الذين حاولوا التصدّي لقضية الهوية بقوة، سواء بشكل مباشر في معظم رواياته ذات الأرضية الشرقية، أم بشكل غير مباشر كما فعل في كتابه الصغير الجميل "الهويات القاتلة". هذا يعني ببساطة أن علينا، في إطار المراجعات الذاتية المستمرة، ألا نخجل من الفرز القائم على المواقف الأخلاقية والفنية الإبداعية إن احتجنا لذلك، حتى لا تقتلنا هوياتنا، ولا نخسر مواقفنا ومواقعنا في هذا العالم.