حب دائري

21 ديسمبر 2017
ريم يسوف / سورية
+ الخط -

1
وقفت زينة أمام المرآة وقد لبست فستانها البنيَ الذي أظهر جمال فخذيها المصقولتين، وضعت أحمر شفاه بلون الكرز فوق شفتيها الممتلئين، ثم تابعت نظراتها المحتارة جسدها من الأسفل إلى الأعلى. عكست المرآة التي توسطها شق طولي نظراتها القلقة، وكان على عقلها أن يبذل جهداً ليجمع جانبي وجهها لأن "الصورة في المرآة مشطورة".

هبّت نسمة باردة من النافذة، ورغبت بالبكاء منذ سنة وهي تلتقي به ولم تحرك أنوثتها بحيرات عينيه الساكنة، ففي المرة الماضية جلست في الجانب البارد من الطاولة بينما جلس بجانب جهاز التدفئة، وأخذ يتحدث عن المرأة الأخرى. لقاءاتها معه صارت تدريباً يومياً لها على الصبر، وكلما قرّرت قطع علاقتها به زاد شوقها.

سألتها شيطانتها: هل أنت مضطرة لتحمل ترهاته؟

(لا)

حملت حقيبتها ثم ألقت معطفها فوق كتفيها وبينما تدير المفتاح في الباب رمت كلمتين مثلما يرمى لاعب نرد أحجاره "بائسة من تحب شاعراً".


2
الريح الضجرة في الغرفة تلقفت الكلمتين بنفاذ صبر مما جعلها ترتطم بالمرآة، عبرت بهما من النافذة المفتوحة وحطت على نافذة شاب أخضر العينين فتأرجح وشاحه الصوفي تحت ثقلهما، الشاب الذي كان ضائعاً قبل ثوانٍ ركض نحو الوشاح.... ألقاه على كتفيه وخرج.
لا يعرف إلى متى ستستمر لعبة التجاهل والهجران بينهما؟

ما الذي غيّرها؟ مذ كانا صغيرين طيَرا عصافير الحب من أقفاصها وانتظراها معاً. فجابت الفصول ولم يقتلها لا صقيع الشتاء ولا حرّ الصيف، والآن... الآن يحتاج إلى تفسير ما لا تفسير له.
شيطانه يخبره "هذا كله لغيرك أما ملاكه فقد رحل مذ هجرته".

وصل إلى منعطف موحل ووقف عند زاوية مهجورة، واستند إلى حائط متآكل تغلفه الرطوبة، مرت نسمة باردة فأثارت العطر الذي وضعه خصيصاً لأجلها لكنها لم تقبل شفاعة العطر بل أدارت رأسها في اتجاه آخر، وآثرت النظر إلى بقع الوحل الغافية على اقدام البيوت المتآكلة.
همس بصوت مخذول: زينة.

لم تلتفت إليه.

زينة...

تابعت سيرها فقال وهو يخرج سيجاره: يبدو أن عصفور حبي رجع وحده.


3
طار العصفور غاضباً وأثارت رفرفة جناحيه دوامة ريح جعلت صحن الطعام يسقط من يد لبنى التي أطلت من نافذة المطبخ وخلعت ثوبها المتسخ ثم ركضت... عادت مجدداً إلى المطبخ... تعثرت بالكرسي واصطدمت قدمها بالكنبة...... سوف تنتبه لاحقاً للبقعة المزرقة فوق ركبتها.

لبست معطفها ورشت عطراً له رائحة البرتقال، ثم أخذت النقود من فوق الطاولة وهي تصيح: أمي سأحضر البِقالة.

- من أين أتتك هذه الشهامة!

الكلمات الأربع لم تستطع اللحاق بها، كانت قد نزلت الطوابق الستة لذا تساقطت الكلمات عند الباب مثل ذباب محتضر.

حين خرجت من فم المبنى داست في بركة وحل، لكنها تابعت الانعطاف نحو الزاوية الباردة وشيطانتها تتبعها وتردد "عودي قبل أن تقع عيناه عليك. كفاك ذلاً".

ذكَرها ملاكها بعشب عينيه فنسيت البرد ووحل الطريق وهمس شيطانها قائلاً: أنت مجنونة.


4
في مقهى صغير وسط مدينة حمص جلس شاعر حزين، هذه المرة الثالثة التي تعده بها ثم تنكث بالوعود ثلاثة أسابيع من الغياب أججت نار شوقه، فقد قدرته على الكلام ودخل "حانة الصمت" مثل سكير مبتدئ لا يملك شجاعة احتساء حزنه ولا حكمة الصامتين وصبرهم، حركات جسده تفضح قلة حيلته، اتصل منذ ثوان بصديقه لكي يخلّصه من المصيبة المتحركة التي أتت في الطريق.

إنها شابة وخيول شهوتك بلغت آخر السباق (يقول لنفسه)

لكن شكه يهمس على استحياء (الحب لا يتوقف عند التفاصيل)

حين وصل صديقه تنهد بارتياحٍ تبدد ما إن فتح الصديق فمه وقال: لن تأتي.
- وعدتني أن تأتي.
- لقد أغرقتك بالوعود.
- ليتك تغرق وأرتاح منك. (قال الشاعر بانزعاج طفت على سطحه آثار مزاح)

ثم تنحنح مرتين كي تزيح عربة الخجل الطريق لباقي الكلمات: هل يمكنني طلب معروف؟

- أنت تأمر يا رجل.
- لقد اتصلت تلك إنها في الطريق.
من؟
- زينة
- آه السمراء.
-هي ذاتها... عندما تصل أبعدها عن المكان لا أريد أن تراها جميلة.

طار الاشمئزاز الذي لبس ثوب مؤامرة صغيرة وحط على كتف زينة، عضتها شيطانتها من أذنها فاضطربت مشيتها لكنها تابعت الطريق.


5
وصلت زينة إلى المقهى فوجدته فارغاَ.

"لبنى" لم تجد أحداً.

"الشاعر" كان يعبر طريقاً فرعياً ليستعيد ذكرياته السابقة التي قضاها مع جميلة تحت نظرات صديقه التي تحولت من السخرية إلى الشفقة وهو يشد على يده ويردد: الوعود تنقض وكل شيء يعوض.

رآها تمسك بيد شاب وسيم، مرّت من أمامه ولم تلتفت إليه أو ربما التفتت. لكن ثقتها بنفسها لم تهتز وفرحها لم ينقص، ظل ينظر إليها حتى غابت خلف الأبنية البعيدة ثم تابع طريقه ليكتب قصيدة، لكنه لن يفعل لأن قصيدته أجهضت قبل ولادتها فقد عقرها ذئب الكراهية... فانعطف نحو بار قريب ليحتسي كأساً.

في الغرفة الباردة انحنت زينة تلملم أجزاء المرآة المكسورة...

"لبنى" أحضرت البقالة واشترت ست قطع كبيرة من الشوكولا خبأتها في جيب المعطف ثم جلست تلتهمها وهي تشاهد فيلماً تركياً.

"الشاب ذو العينين العشبيتين" اصفَرَّ العشب في عينيه، استلقى على سريره و دخن عشر سجائر متتالية. عضات الجوع أنسته عضات الحب، لكن ليس لوقت طويل فبعد أن التهم وجبة باردة بكى وهو يغفو....

السماء في الأعلى وبعد مشاحنات مطولة وبين جذب للغيوم وشدّ للرياح، أقنعت الثلوج بالتساقط، لكن الثلوج المعتدة بنفسها، والتي اعتادت على استقبال أشبه باستقبال مجانين لنزيل جديد، لم تلفت نظر أحد سوى بعض العجائز المصابين بالزهايمر، وبعض القطط وسرب عصافير أسرع إلى مخابئه التي حفرها في الجدران.

* كاتبة سورية

المساهمون