حالات انتحار مع كل مرحلة ضيق اجتماعي في تونس

07 ديسمبر 2019
الأزمة خانفة (حاتم صالحي/ فرانس برس)
+ الخط -

عادت موجة الانتحار في تونس لتتصاعد من جديد بعد محاولة شابين حرق نفسيهما (توفي أحدهما) في مدينة جلمة من محافظة سيدي بوزيد، في ظرف 48 ساعة، احتجاجاً على أوضاعهما الاجتماعية الصعبة، في وقت تحذر منظمات مدنية من تنامي ظاهرة الانتحار بسبب الجوع في البلاد.

ورغم تعدد أشكال الانتحار ووسائله، إلا أن أغلب الحالات المسجلة منذ عام 2011 تشترك في سبب واحد وهو الفقر، حيث تتصدر المحافظات الداخلية الأقل تنمية المراتب الأولى في حالات الانتحار والاحتجاجات الاجتماعية. وكان انتحار الشاب محمد البوعزيزي (مواليد 1984) في محافظة سيدي بوزيد في 14 ديسمبر/ كانون الأول 2011 السبب المباشر لاندلاع ثورة تونس التي انتهت بإطاحة نظام الرئيس زين العابدين بن علي، بعد 23 عاماً في الحكم. ومنذ ذلك التاريخ، لم تهدأ وتيرة الاحتجاجات في تونس ولا يزال شباب ينتحرون للتعبير عن غضبهم من سياسة السلطات الرسمية التي لم توفّق في الحد من الفقر وتوفير فرص العمل لأكثر من 630 ألف طالب شغل في البلاد.

وسجّل "المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية" في تقريره حول الاحتجاجات الاجتماعية والانتحار والعنف خلال السداسي الأول للعام الحالي: 146 حالة انتحار ومحاولة انتحار (105 ذكور، و41 أنثى)، مبينًا أن أعلى نسبة مسجلة في القيروان (29 حالة)، تليها قفصة (14 حالة)، ثم ولايتا تونس وسليانة (10 حالات). وأوضح التقرير أن الفئة العمرية المقدمة على حالات الانتحار ومحاولات الانتحار هي فئة ما بين 26 و35 سنة (45 حالة)، تليها فئة ما بين 15 و26 سنة (27 حالة)، وخلفها مباشرة فئة ما بين 36 و45 سنة (26 حالة)، مؤكداً أن أسباب هذه الحالات هي البطالة وهشاشة الوضعية المهنية والمشاكل الأسرية.

وقال رئيس "منتدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية"، عبد الرحمن الهذيلي، إن "حالات الانتحار تتجدد مع كل مرحلة ضيق اجتماعي"، مشيراً إلى أن نسبة الانتحارات تنخفض في فصل الصيف خلال العطل المدرسية وموسم الأفراح لكنها سرعان ما تعود بداية الخريف، مسجلاً استقراراً في عدد الانتحارات التي يرصدها المنتدى. وأضاف الهذيلي في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن "الأزمة الخانقة التي انتهت إليها منظومة الحكم المتعاقبة رغم اختلاف العناوين، وبعد فشلها في تقديم الحلول المنتظرة، تدفع باليائسين نحو إنهاء حياتهم بطريقة أو بأخرى". واعتبر الهذيلي أن تجاهل المطالب الاجتماعية العادلة يدفع لمزيد من توتير الأوضاع والإقرار بعجز الدولة عن الاستجابة لمطالب التشغيل والتنمية والتوجه نحو المواجهة الأمنية للاحتجاجات والانتحار. وأشار إلى تضرر التونسيين من ضعف النمو الاقتصادي وتوتر الأوضاع الاجتماعية، وما وصفه بـ"الاندثار المفجع والمخيف لكل مقومات التنمية وللمرفق العمومي ولدور الدولة، ما يزيد في حالات اليأس التي تنتهي بالانتحار".




ولا تنحصر حالات الانتحار التي شهدتها تونس في السنوات الأخيرة عند العاطلين عن العمل، حيث طاولت هذه الظاهرة فئات اجتماعية متعددة من بينها الأطفال وطلاب الجامعات وحاملو الشهادات العلمية وموظفون. ويلفت المختصون في علم الاجتماع إلى أن الإقدام المطرد على عمليات الانتحار يرتبط بالضغوط الاقتصادية القاسية من فقر وبطالة، مشيرين إلى أن حالات القلق والكآبة وعدم الاستقرار تزداد بين العاطلين عن العمل.

في هذا السياق، يرى الباحث الاجتماعي سامي نصر أن "الشعور بالانكسار أو الحاجة الماسة للمال يؤدي إلى فقدان الأمل لدى المنتحرين، الأمر الذي يدفعهم إلى إنهاء حياتهم بطريقة أو بأخرى". ويقول نصر لـ"العربي الجديد" إن "الفقر والجوع والخوف والإحباط أحاسيس متلازمة يغذيها الظلم الاجتماعي الذي تمارسه السلطة على بعض الجهات الفقيرة والتي تظل خارج دائرة التنمية"، مؤكداً أن هذه الحالات النفسية تنعكس سلبياً على العلاقة بين الأفراد سواء في الأسر نفسها أو في التعامل مع بقية أفراد المجتمع.

الفقر لا يرحم (حانين بينايشا/ Getty) 

وفي تونس، يلتقي العديد من الدراسات الطبية والاجتماعية، حول ظاهرة الانتحار، على أن "السبب الرئيسي في هذه المشاكل بين العاطلين عن العمل، هو الافتقار إلى المال، وعدم توفره لسد الحاجة، وبناءً على ذلك فإن تعطيل الطاقة الجسدية بسبب الفراغ، لا سيما بين الشباب الممتلئ طاقة وحيوية ولا يجد المجال لتصريف تلك الطاقة، يؤدي إلى أن ترتد عليه تلك الطاقة لتهدمه نفسياً مسببة له مشاكل كثيرة قد تنتهي بقرار التخلص من الحياة".

ويتجه العديد من البحوث والتحليلات الأكاديمية في هذا الشأن إلى تفسير النزوع نحو التخلص من الحياة بتعرض الشاب لضغوطات عصبية أو مالية أو عاطفية، وإن كانت في معظمها تمثل حالات ومشكلات عابرة يسهل على الكثير استيعابها في الظروف العادية، إلا أن نقص التوجيه النفسي والاجتماعي في محيطه يدفعه للقيام بهذه الخطوة. من جهته، يعتبر المختص في الطب النفسي الدكتور عماد الرقيق أن الوضع السياسي العام المتسم بالرداءة والسلبية يلقي بظلاله على الحالة النفسية للتونسيين، مشيراً إلى أن التراكمات الحاصلة من عنف وانعدام الثقة تسبب التأزم النفسي وتدفع الحالات الهشة نحو الانتحار. وتمثل مراحل العمر الانتقالية، كالمراهقة، بحسب ما يشرحه الرقيق لـ"العربي الجديد"، أرضية خصبة للأمراض النفسية نظراً إلى التغييرات الهرمونية والتحولات البيولوجية المفاجئة والتي تتسبب في بعض الأحيان ببروز حالات انفعالية وإحساس بالقلق واضطرابات سلوكية وعاطفية عند المراهقين والشبان.



وقد احتلت تونس المركز الثاني في منطقة المغرب العربي والمركز 134 على المستوى الدولي بـ 5.5 حالات انتحار بين كل 100 ألف نسمة، بحسب تقرير أعدته منظمة الصحة العالمية. وقياساً بما يتم تسجيله من نسب كبيرة وخطيرة من حالات انتحار في بعض دول العالم خاصةً في أوروبا وآسيا فإن معدلات الانتحار في تونس تبقى ضئيلة نسبياً، بحسب ذات التقرير الذي تم إعداده عام 2018، ولكنها مع ذلك تبعث على القلق وتتطلب مواجهتها وتحليل أسبابها لإيجاد حلول فورية لها.