بعد مرور أكثر من عامين على وجودي في الحيّ البيروتي القديم، وقناعتي التامة أنّي لن أمكث فيه طويلاً، قرّرت ألاّ أبني أي صداقات، كي لا أتشارك أي نوع من النوستالجيا مع أهله. كنت أكتفي ببعض التحيات السريعة بيدي لبعض الأشخاص المتواجدين بشكل دائم أمام بوابات محلاتهم.
تعرّفتُ في البداية على بسام، حلاق الحي، وبائع الخضار حمّودي الذي يلقّبني بـ"جاري العزيز". لم تكن صداقة بقدر ما هي مجاملات عادية، بسبب تواجدهما الدائم في الحي. كذلك هناك "الشقور" الذي فرض نفسه بصفته مسؤولاً عن شبان الحي بصفته الحزبية الواضحة وغير المعلنة وكونه سمسار الحيّ الأول. دائماً ما يسألني عن حالي ويتأكد أن "كل شيء على ما يرام". وبسبب عملي في حقل الصحافة (المجال الفني)، يتحدّث معي كخبير سياسي أو اقتصادي ويحلّل أحوال المنطقة وناسها، وآخر توقعاته أن اكتشاف النفط في لبنان سيحلّ أزمة الكهرباء والبطالة.
قبل فترة كنت عند المنجّد، وهو رجل سبعيني ولد في الحي وورث مهنته عن والده، أُصلحُ كرسيّ دراجتي النارية من بعض التشققات التي ظهرت عليه. وبسبب قرب محلاّت الحي من بعضها، سارع حمّودي إلى المنجّد قائلاً: "معلّم بدك تتوصّى بجاري العزيز". كانت هذه أول توصية أحصل عليها، فأحسست للحظة بانتمائي للحي. لحظة أعادتني إلى فترة الحرب. هناك، إلى حارتنا حيث كنّا نسكن في إحدى ضواحي بيروت. كانت الحارة حدود عالمنا، وكان دكان أبو غسان مركز تجمع شبان الحي، لوجوده بين عدة أبنية، بعيداً عن نيران العوالم الأخرى.
باشر المنجّد عمله بإصلاح المقعد مستذكراً كيف كان الشارع قبل الحرب ومؤكداً أنه لم يهجر المنطقة أثناء اندلاعها. كذلك تحدّث عن معرفته الشخصية ببعض السياسيين. في هذا الوقت يصل بائع القهوة المتجوّل، ويتدفّق من بعده أصحاب المحلات المجاورة. القهوجي يحفظ طلباتهم سلفاً. وقد سألني أحد الموجودين "كيف قهوتك؟" قاصداً معدّل السكر فيها، وقبل أن أجيبه كان الفنجان قد صار في يدي. لم يستغربوا وجودي بينهم، أكملوا حديثاً بدأوا به بالأمس. بعد استيعابي للموضوع شاركتهم الحديث، وتعارفنا أكثر.
أعلم أن للشارع طقوسه وناسه، كما لكل حواري المدن القديمة ناسها، التي غالباً ما تكون أقدم من الأرصفة نفسها. الآن تبدّل السلام من تحية باليد إلى وقفة صباحية تمتد في بعض الأحيان إلى أكثر من ساعة من الوقت. وقد صرتُ أكيداً أنني سأشارك في هذه النوستالجيا، وسأراكم في نفسي شيئاً منها لأخبّر عنه عند الانتقال إلى سكن جديد.
اقــرأ أيضاً
تعرّفتُ في البداية على بسام، حلاق الحي، وبائع الخضار حمّودي الذي يلقّبني بـ"جاري العزيز". لم تكن صداقة بقدر ما هي مجاملات عادية، بسبب تواجدهما الدائم في الحي. كذلك هناك "الشقور" الذي فرض نفسه بصفته مسؤولاً عن شبان الحي بصفته الحزبية الواضحة وغير المعلنة وكونه سمسار الحيّ الأول. دائماً ما يسألني عن حالي ويتأكد أن "كل شيء على ما يرام". وبسبب عملي في حقل الصحافة (المجال الفني)، يتحدّث معي كخبير سياسي أو اقتصادي ويحلّل أحوال المنطقة وناسها، وآخر توقعاته أن اكتشاف النفط في لبنان سيحلّ أزمة الكهرباء والبطالة.
قبل فترة كنت عند المنجّد، وهو رجل سبعيني ولد في الحي وورث مهنته عن والده، أُصلحُ كرسيّ دراجتي النارية من بعض التشققات التي ظهرت عليه. وبسبب قرب محلاّت الحي من بعضها، سارع حمّودي إلى المنجّد قائلاً: "معلّم بدك تتوصّى بجاري العزيز". كانت هذه أول توصية أحصل عليها، فأحسست للحظة بانتمائي للحي. لحظة أعادتني إلى فترة الحرب. هناك، إلى حارتنا حيث كنّا نسكن في إحدى ضواحي بيروت. كانت الحارة حدود عالمنا، وكان دكان أبو غسان مركز تجمع شبان الحي، لوجوده بين عدة أبنية، بعيداً عن نيران العوالم الأخرى.
باشر المنجّد عمله بإصلاح المقعد مستذكراً كيف كان الشارع قبل الحرب ومؤكداً أنه لم يهجر المنطقة أثناء اندلاعها. كذلك تحدّث عن معرفته الشخصية ببعض السياسيين. في هذا الوقت يصل بائع القهوة المتجوّل، ويتدفّق من بعده أصحاب المحلات المجاورة. القهوجي يحفظ طلباتهم سلفاً. وقد سألني أحد الموجودين "كيف قهوتك؟" قاصداً معدّل السكر فيها، وقبل أن أجيبه كان الفنجان قد صار في يدي. لم يستغربوا وجودي بينهم، أكملوا حديثاً بدأوا به بالأمس. بعد استيعابي للموضوع شاركتهم الحديث، وتعارفنا أكثر.
أعلم أن للشارع طقوسه وناسه، كما لكل حواري المدن القديمة ناسها، التي غالباً ما تكون أقدم من الأرصفة نفسها. الآن تبدّل السلام من تحية باليد إلى وقفة صباحية تمتد في بعض الأحيان إلى أكثر من ساعة من الوقت. وقد صرتُ أكيداً أنني سأشارك في هذه النوستالجيا، وسأراكم في نفسي شيئاً منها لأخبّر عنه عند الانتقال إلى سكن جديد.